بقلم : الأسعد السميري - لست أدري، كلما تأملت في حال حكومتنا الشرعية إلا وتذكرت حكاية الأسد والأرنب التي كنا قد طالعناها في سنوات شبابنا الأولى ضمن كتاب "كليلة ودمنة"، ذلك الأسد الذي من فرط حمقه لم يتردد في الإلقاء بنفسه في البئر ظنا منه أن صورته التي كانت مرتسمة على صفحة الماء هي صورة عدوه الذي كان ينافسه على عرش الغابة. ذلك هو حال حكومتنا اليوم التي رغم كل المطبات والمآزق التي وجدت نفسها فيها طوعا أوكرها فإنها لا تزال مصرة بعناد غريب على إلقاء كل تبعات تلك المآزق على خصومها السياسيين في سياق منطق المؤامرة الذي يبدو أنها بالغت في اعتماده إلى درجة الابتذال. وعوض أن تتمعن في وجهها في المرآة بحثا عن مواطن القبح فيه نراها وقد قادها "اجتهادها" إلى الاعتقاد بأن كامل ملامح الصورة إنما هي من صنع مؤامرات الخصوم وأنها لا تتحمل أي قدر من المسؤولية عن ذلك الوضع. وبالتالي فمن الطبيعي أن تتمادى في أسلوب الرضى عن النفس وليس بالإمكان أفضل مما كان... لقد بتنا نلحظ لدى هذه السلطة اليوم قدرا كبيرا من التوجس الذي يصل إلى حدود الخوف المرضي من أي نقد مهما خفتت حدته وأيّا كانت الجهة التي يصدر عنها اللهم إلا ما كان صادرا في شكل مسرحيات سيئة الإخراج من قبيل ما سمي بحملة "اكبس" التي دلت على فشل ذريع لدى الحزب الحاكم في استيعاب متطلبات المرحلة. أما ما عدى ذلك فالكل في الخيانة سواء، وتكون الاتهامات المعلبة جاهزة في كل مرة لترفع في وجه الجميع ليصبحوا عملاء ومتآمرين ومتواطئين ومن أزلام النظام السابق ورافضين لنتائج الانتخابات الخ... إلا أهل السلطة فهم وحدهم سدنة الثورة والأوفياء الصادقون الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم. ثم وفي مرحلة لاحقة لما بدأت هذه الأصوات المنتقدة ترتفع من داخل الائتلاف الحاكم طالعتنا اتهامات من نوع جديد؛ فأصبح وزير الإصلاح الإداري المستقيل ساعيا وراء خدمة أجندته الشخصية وباحثا عن حملة رئاسية سابقة لأوانها، وأصبحت استقالة وزيرالمالية زوبعة إعلامية استباقية أتت لتقطع الطريق أمام تحوير وزاري مفترض. أما ثالثة الأثافي فكانت القنبلة التي فجرها رئيس الجمهورية المؤقت في كلمته التي ألقيت في افتتاح مؤتمر حزب المؤتمرمن أجل الجمهورية والتي سرعان ما تلقفتها الآلة الإعلامية "الفيسبوكية" للشريك الأكبرلتحولها إلى ما يشبه المغامرة الانفعالية التي لم يقرأ لها صاحبها أي حساب... قطعا لم تكن إشارات السيد رئيس الجمهورية حول تغول حركة النهضة وتشبهها بسلفها حزب التجمع، قطعا لم تكن إشارات عابرة بقدرما كانت ناقوس إنذار أمام الحزب الحاكم الجديد حتى يعيد ضبط حساباته السياسية والسلطوية. وبالتأكيد لا أخال السيد المرزوقي ضمن جماعة "الصفر فاصل" أو ممن يسعون إلى وضع العصا في العجلة مثلما درج سادة تونس الجدد على وصم أي صوت معارض أو ناقد بذلك. وبعيدا عن كل التجاذبات الداخلية التي يشهدها الفريق الحاكم حاليا، يبدو أن المشكلة هنا هي أن الحكومة بقيت إلى الآن أسيرة عقدة نتائج الانتخابات فلم تستطع التخلص من تلك العقدة ودرجت على تفسير جميع المواقف المقابلة لها، سواء كانت ناقدة أو حتى لائمة ومعاتبة، درجت على تفسيرها بعدم رضى أصحابها بنتائج الانتخابات وبأنهم لم يقبلوا باختيارالشعب الخ... هذا الموقف المختل لن يؤدي إلا إلى التعامي عن كل نقاط الضعف في الأداء والتمادي في ذات نهج الرضى عن النفس، رغم أن الاستحقاقات العاجلة في البلاد تستوجب الترفع عن هذه النرجسية العقيمة والاعتماد أكثرفأكثرعلى التعامل الجدي مع تلك الاستحقاقات بكثيرمن التواضع والعقلانية. فالمؤكد اليوم أن حصاد عقود الاستبداد كان خرابا يبابا وأن أكثر التوقعات إيغالا في التشاؤم لم تكن لتتوقع حجم الحطام الذي ورثناه عن حقبة الدكتاتورية، وهذه التركة الثقيلة هي من الاتساع والشمول بحيث لم تترك مجالا من المجالات إلا وطالته يد الإفساد والتخريب. وكان واضحا منذ البداية أنه من شبه المستحيل على أي طرف سياسي بمفرده أن يدعي القدرة على مواجهة هذا الكم الهائل من الملفات والمشاكل والقضايا الحارقة دون أن يتم ذلك على قاعدة التوافق التي تتطلب ضبط سلم جديد لأولويات الأهداف الوطنية الجامعة بعيدا عن أية أجندات حزبية معيقة لروح ذلك التوافق. وعوض أن يقر الحكام الجدد بهذه الحقيقة البديهية التي لا تنتقص من شرعيتهم قيد أنملة، انبروا في المكابرة وفي الادعاء بأن سبب فشلهم لم يكن في ضخامة القضايا المطروحة ولا في عجزهم عن حلها بمفردهم، وإنما في المؤامرات والدسائس التي ما انفكت تحيكها بقية القوى السياسية بحسب زعمهم. ولا فائدة هنا في بيان ما لهذه التبريرات المتهافتة من وهن ومن عدم قدرة على الإقناع سواء لدى الفئات المثقفة والمسيسة أو حتى لدى الفئات الشعبية البسيطة التي يبدو أن صبرها قد أوشك على النفاد. الغريب أنهم يريدون إقناعنا بأن حالة التوتروالاحتقان التي تعيشها البلاد اليوم إنما مردها فوز حركة النهضة في الانتخابات واستلامها مقاليد الحكم، والحال أنهم أول من يدرك جيدا أن هذا الوضع المتفجر وهذه الموجة العارمة من المطلبية الاجتماعية كانت بانتظارأي طرف سياسي كان سيحكم البلاد بعد الثورة سواء كان حركة النهضة أو غيرها، بمعنى أن حالة الكبت الاجتماعي والسياسي التي عانى منها التونسيون طيلة حقبة الاستبداد قد تحولت بعد الثورة إلى انفجار اجتماعي وسياسي هائل خاصة مع ارتفاع سقف المطالب لدى التونسيين إلى مستويات غير مسبوقة. بل إني أكاد أجزم بأن الوضع كان يمكن أن يكون أشد توترا واحتقانا فيما لوفازت في الانتخابات أية قوة سياسية أخرى عدى الإسلاميين، لأننا في تلك الحالة سوف نشهد دخول لاعبين آخرين إلى مسرح الأحداث، وأعني هنا القواعد العنيفة لحركة النهضة مضافا إليها المجموعات السلفية التي برغم كل ما قامت وتقوم به اليوم على حدته، فإنها لم تتجاوز بعدُ الخط الأحمرالذي يجعلها تحرج الحكومة الحالية وتهدد وجودها واستمرارها، ولا زالت محافظة على شعرة معاوية بينها وبين رديفها الإيديولوجي الماسك بتلابيب السلطة. خلاصة القول أن الاستحقاق اليوم ضخم ويتطلب من الجميع قدرا عاليا من الجدية ومن الإحساس بالمسؤولية، ويستدعي من أهل السلطة بدرجة أولى أن يتركوا جانبا افتعال المعارك الإيديولوجية الوهمية ويكفوا عن استهداف الحريات ومحاولات وضع اليد على قطاعات الإعلام والقضاء والإدارة... وينكبوا بدلا من ذلك على العمل الجدي بوضع أيديهم في أيدي باقي الفرقاء سعيا وراء تهيئة أوسع أرضية توافقية ممكنة تكون منطلقا للعمل نحو الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة ووضع القاطرة على سكة البناء الديمقراطي السليم والمستمر.