"يا صحافي... يا كّذاب... يا سفيه" هذا شعار تم رسمه بالدهن في عدد من أنهج حي لافاييت بالعاصمة وكاتبه، هو شخص جاهل، أو شخص يتحرك وفق منظومة فكرية ساذجة وضيقة وأجندا سياسية متخلفة، فليعلم أولا أنه لا توجد صحافة واحدة في بلادنا أو في أي بلاد في الدنيا، بل هناك أنواع صحفية عديدة، فهناك ما يسمى بصحافة "ربة البيت" التي تتجه إلى قراء محدودي التفكير والاهتمامات، وهناك "صحافة المجاري" أي الصحافة القذرة النجسة التي تبحث عن الفضائح وتسخرها السلطة لتشويه معارضيها ولإرهاب شعبها، وهناك صحافة "التجهيل والتسخيف" التي تحاول هدم اخلاق المجتمع وقيمه وإلهاءه بالسفاسف والقضايا الهامشية من نوع فستان نانسي عجرم وعقد اللاعب فلتان وذوقه في الاكل واللباس، وكل هذه الأنواع من الصحافة يلتقي اصحابها، أي مالكوها، عند هدف واحد وهو الاثراء السريع بأية وسيلة أي "من حلالك ومن حرامك" دون حد ادنى من الأخلاق ومن التعفف. وقد شجع الرئيس المخلوع هذا النوع من الصحافة، اذ ضخ فيها عبر الاعلانات الحكومية أي اموال الشعب مبالغ طائلة تقدر بعشرات المليارات سنويا، وقد انتفع بهذه الاموال اصحاب هذه المؤسسات الصحفية جزاء بيع ضمائرهم ولم ينتفع بها الصحفيون فملأ هذا النوع القذر من وسائل الاعلام المنحطة البلاد. وكان مالكو وسائل الاعلام هذه يشغّلون اكثر ما يشغّلون "متعاونين" يأتون بهم من قطاعات مهنية اخرى فهم خليط من الموظفين يشتغلون "بالقطعة" أي تحتسب اجورهم بعدد المقالات التي يكتبونها كل شهر، مما يسمح لمالك الجريدة بأن يشغل عشرة اشخاص من هذا النوع بأقل من مرتب صحفي محترف واحد. وهكذا امتلأت الساحة الصحفية بالدخلاء حتى ان هناك جرائد اسبوعية تكاد لا تشغل على اقصى تقدير صحفيا او صحافيين اثنين قارين، كما كان النظام البائد لا يمنح رخص وسائل اعلام مكتوبة او مرئية او مسموعة الا لمن يرضى عنهم، أي يقبلون أن يخدموا أجندته او ان يكونوا مرتبطين باجهزة مخابراته، وكان يحجب رخص وسائل الاعلام عن كل من تشتم منه لا رائحة المعارضة، بل حتى رائحة الاستقلالية لا غير. إنها حقائق لاشك فيها يجب ان يعرفها الرأي العام حتى يمكنه الفهم والحكم. وأين الصحفيون في كل هذا؟ إن حفنة وسائل الإعلام الجدية في البلاد آنذاك والتي كانت بدورها مقموعة ومحاصرة ومهرسلة بشتى الوسائل كانت لا تستطيع استيعاب كل الصحفيين النزهاء، ولذا فإن العديد من الصحفيين المهنيين المستقلين أو المعارضين، ابتعدوا عن القطاع أو هاجروا أو خيّروا طريق النضال من الداخل أو الخارج، فكان السجن أو التجويع مآلهم وقد كان القطاع الصحفي -وهذا ثابت وموثّق- في مقدمة القطاعات التي دفعت أثقل ضريبة خلال العهد البائد. وخلال تلك الفترة نجح النظام البائد في اشتراء ضمائر عدد من الصحفيين، ترهيبا أو إغراء، كما أن البعض تطوع بنفسه لتقديم خدماته وبيع ذمته، ففي كل جسم توجد خلايا ضعيفة ومريضة وتلك حكمة الله وما لحكمة الله تبديلا. فهذا أمر لا ينكر، إلا أن الغريب في الأمر أن هؤلاء لم يلحقهم إلى اليوم أي نوع من المحاسبة والمساءلة ولو ب"التغييب" أي بإجبارهم على مغادرة الساحة الصحفية. ويبدو أن هذا الأمر مقصود، لغايات مبيتة وخبيثة، وللإيهام بأن كل الجسد الصحفي مريض، بل الأغرب من ذلك أن "حكومة الثورة" هي التي أعادت قسما كبيرا منهم إلى الواجهة واستأجرت اليوم خدماتهم. بل إن البعض من المناضلين الحقيقيين في قطاع الإعلام الذين جوعهم وشردهم أو سجنهم بن علي والذين جاءت بهم حكومتا الغنوشي - لتزيين صورتها - أو حكومة الباجي قايد السبسي لخدمة الإعلام ومحاولة إصلاحه، جميعهم استغنت عنهم "حكومة الثورة" الواحد تلو الآخر وعوضتهم بتجمعيين سابقين أو برجال ساهموا في آلة القمع "البنعلية" وجريمة قتل الصحافة التونسية. والغريب في الأمر أن الخطاب إزاء الصحافة التونسية خلال عهد بن علي واليوم بعد الثورة لم يتغيّر قيد أنملة، فبن علي كان يستغل كل المناسبات ليعلن دعمه للصحافة التونسية ولحريتها وبأنه لا ممنوعات في بلادنا وليدعو الصحفيين التونسيين للتحلي بالشجاعة والجرأة وللتخلي عن الرقابة الذاتية!! . واليوم تعزف لنا سمفونية متطابقة معها تماما، فالصحافة هي "صحافة العار" هي "صحافة بنفسجية" الخ... سمفونية تلهم من كتب شعار "الصحفي الكاذب والسفيه". إلا أنه غاب عليه وعلى أمثاله أن صحافة المجاري التي ازدهرت خلال عهد بن علي، ازدهرت أكثر بعد الثورة، وأن أموال المجموعة العمومية (عبر الاعلانات الحكومية) تغذيها الى اليوم، وهذه الأموال لا تذهب الى جيوب الصحفيين، بل تذهب الى جيوب أعرافهم الذين قمعوهم خلال عهد بن علي وهمشوهم ماديا ومعنويا وجوعوهم. وقد تعززت صفوف هذا الطابور وتدعمت اكثر بعدد كبير من العناوين التي تقف وراءها وتمولها مافيات "الطرابلسية" و"البنعلية" للهرسلة واجهاض الثورة، وخصوصا منع المحاسبة والمساءلة. وهو أمر متوقع بعد أن رفضت الحكومة لفترة طويلة تفعيل المرسومين 115 و116 لغايات مجهولة معلومة المتعلقين بالصحافة والذي كان من شأنه أي التفعيل أن يحاول تنظيم القطاع وتأمين حد أدنى من الشفافية في تمويل وسائل الاعلام وبعد أن رأينا التباطؤ الكبير في تركيز آليات العدالة الانتقالية . وينضاف الى كل ذلك عدم ارساء معايير واضحة وشفافة لتوزيع الاشهار العمومي. ان بن علي خلق في القطاع "فوضى" مقصودة الا أنها في الواقع منظمة ومرتبة حسب أجندته، واليوم تضاعفت الفوضى، حسب أجندا معينة دون شك. فقد خلق بن علي مثلا جريدة ك"الحدث" المتميزة تونسيا وعالميا أيضا في الانحطاط والبذاءة ولكن انظروا الآن وبعد ثورة شعب كم توجد من جريدة "حدث" في البلاد أكثر انحطاطا وبذاءة وعهرا!! ومرة أخرى أين الصحفي المسكين من كل هذا؟! انه يناضل من أجل استقلاليته وكرامة مهنته من داخل مؤسسته مستعينا بنقابته، أي نقابة الصحفيين التونسيين، حتى لا يعود الى الوراء، الى المربع الأول، حتى لا يعود الى بيت الطاعة.. تلك هي الحقيقة الساطعة التي يريد البعض تغييبها بشتى الوسائل.