يشن الصحفيون التونسيون اليوم اضرابا عاما للدفاع عن مهنتهم واستقلاليتها وللذود عن حق المواطن التونسي في إعلام تعددي وحر يكون فضاء ل"حوار أفكار" من شأنه أن يرتقي ب"الذهنية العامة" ويكون عنصر تنوير وتثقيف، ويمثل ضمانا لممارسة جميع الحريات الاخرى وعينا ساهرة تمثل سلطة رابعة حقيقية تراقب السلط الثلاث الأخرى وتحاسبها حسابا عسيرا على كل هنة وزلة وخطإ. فبن علي ما كان له أن يتمكن من احكام قبضته على المجتمع لولا وسيلتين أساسيتين هما الأمن والإعلام أولا.. والقضاء ثالثا. إلا أن هناك اليوم جبلا من المغالطات حول هذا الموضوع يخفي سوء نية واضحة. نعم، فلقد كان الإعلام فعلا احدى الأدوات الرئيسية التي ركز بفضلها الرئيس المخلوع «جمهورية العار».. جمهورية الرعب والقمع والسلب والنهب على امتداد أكثر من عقدين، إلا أن ما يتم اخفاؤه عن الرأي العام عمدا هو: ٭ أولا: أن «الجسم الصحفي» على غرار المحامين والقضاة وبعض القطاعات «النخبوية» إن صح التعبير أفرز «أجساما مضادة» تصدت لآلة القمع ورفضت الانخراط في منظومة الفساد مما جعل الصحفيين الشرفاء يوجدون في مقدمة النضال ضد بن علي ويلاقون العسف فدخل بعضهم السجن وأطرد البعض الآخر من مهنهم أو أجبروا على الصمت أو اضطروا الى الهجرة، ولا يجب أن ننسى في هذا المجال أن النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين رفضت مناشدة بن علي للترشح لانتخابات 2014 فكان أن خطط للانقلاب عليها بفضل كمشة من أبناء القطاع. ٭ ثانيا: إن الصحفي في ظل المنظومة القانونية القائمة آنذاك والتي يمكن القول إنها ماتزال قائمة الى اليوم أي في ظل مجلة الصحافة والقوانين الشغلية ما هو إلا أجير كغيره من الأجراء، أي أن الكلمة الأخيرة في كل كبيرة وصغيرة في المؤسسة تعود الى صاحب العمل أي المؤجر، ولذا فإن المغالطة، بل الأكذوبة الكبيرة اليوم، هي الإيهام بأن الصحفيين هم المتواطئون على الأقل بصمتهم مع نظام بن علي، بينما الصمت كان مفروضا عليهم من طرف أعرافهم الذين كانوا ينالون جزاء خدماتهم هذه، المكافأة من المال العام (من وكالة الاتصال الخارجي) في شكل اعلانات حكومية وغيرها من الامتيازات. وكانت هذه الصفقة «الحقيرة» بين أصحاب المؤسسات الاعلامية والنظام الفاسد تسمح للمؤجرين أيضا بالدوس على حقوق الصحفيين العاملين لديهم وتركهم في حالة هشاشة مادية ومعنوية كبيرة وبحجب الامتيازات الاجتماعية عنهم، فقسم هام من الصحفيين التونسيين كانوا لا يتقاضون حتى الأجر الأدنى الصناعي، مما اضطر بعض خريجي معهد الصحافة والأمثلة عديدة الى تفضيل العمل في حضائر البناء بعد تجربة قصيرة من العمل الصحفي!! فمالك الصحيفة أو القناة التلفزية هو وحده الذي يقرر ما ينشر وما يذاع، ولا راد لأحكامه، ومن تحدثه نفسه بأن يناقش في ذلك ف«حنك الباب» أمامه! فكيف يمكن أن يلام الصحفيون التونسيون اليوم على صمتهم وتستعمل هذه الأكذوبة حجة ضدهم؟! إنه لمنتهى الكذب والتعمية. ٭ ثالثا: إن الغريب في الأمر رغم أنه ليس في الواقع في الأمر ما يستغرب أن أصحاب وسائل الاعلام هذه ومديريها خلال العهد السابق سواء أكانت خاصة أو عمومية والمتورطين حتى النخاع مع العهد البائد هم موجودون اليوم على الساحة الصحفية لم يمس أي من امتيازاتهم ونفوذهم ولم تتم محاسبتهم لا معنويا ولا قانونيا، بل لم يطلب منهم حتى الاعتذار للشعب التونسي، وأن عديد التعيينات على رأس مؤسسات عمومية تشرف عليها «حكومة الثورة» انتفع بها أزلام النظام السابق وجلادوه، بل وهنا تبلغ الغرابة حدود السريالية إن بعض هؤلاء الأزلام في القطاع الخاص ممن قبضوا المليارات من أموال المجموعة جزاء جرائمهم في حق البلاد وفي حق صحفييهم «تنعوشوا» اثر الثورة أكثر، ومن كانت له وسيلة اعلام أصبحت له وسيلتان وأكثر وهو اليوم «يرضع» من ثدي الحكومة.. «حكومة الثورة» أي من أموال المجموعة الوطنية. ٭ رابعا: إن عددا من الصحفيين الذين تورطوا فعلا ومباشرة مع النظام السابق انتقلوا اليوم الى الضفة المقابلة اثر الثورة، ففتح لهم الحزب المهيمن، أي «النهضة»، والحكومة ذراعيهما، فلا يكفي أنه لم تلحقهم أية محاسبة أو مساءلة، بل تم إقحامهم مجددا في القطاع وتقديمهم الى الواجهة، من ذلك أن «الاستشارة الوطنية حول الإعلام» التي نظمتها الوزارة الأولى كان من بين «خبرائها» عدد من خبراء «قتل» الإعلام على حد تعبير جريدة «لوموند» في عهد بن علي. وعلى ضوء ما سبق فإن من يتحدثون عن «اعلام العار» و«الإعلام البنفسجي» أن يستحوا قليلا وألا يستبلهوا الشعب التونسي، فالصحفيون الشرفاء (وهم ليسوا قلة، بل القلة منهم من باعوا ضمائرهم للشيطان) ما فتئوا يطالبون منذ الثورة بتطهير القطاع وبمحاسبة على الأقل أخلاقية لمن تورطوا لا بغرض الانتقام والتشفي، بل بهدف «تحصين الثورة» باستبعاد الفاسدين، وبهدف ارساء ثقافة وقيم جديدة في المجتمع تقوم على مبدإ «المسؤولية الشخصية»، وإن الصحفيين الشرفاء هم الذين ما فتئوا يطالبون بنشر «القائمة السوداء» للصحفيين المخبرين الذين تعاملوا كوشاة مع مصالح المخابرات ومن قبضوا الأموال الطائلة عبر وكالة الاتصال الخارجي، إلا أن حكومة الثورة هي التي تتهرب من ذلك بشتى الذرائع، من ذلك أن علي العريض عارض فكرة نشر القائمة السوداء «خوفا على مشاعر عائلات وأبناء» هؤلاء الصحفيين المخبرين! وخوفا من عمليات انتقامية! ناسيا أو متناسيا أن مصالح المجموعة الوطنية وحقوقها يجب أن تمر دائما قبل المصالح الفردية، وأنه على العكس مما يعتقد فإن أبناء هؤلاء ستتوفر لهم فرصة ذهبية لكي يراجعوا المنظومة التي نشأوا عليه، وأن يبنوا منظومة أخلاقية مغايرة لتلك التي عمل بها آباؤهم ولقنوهم إياها، وأن يصبحوا في يوم ما «رجالا» حقيقيين ينفعون بلادهم وشعبهم.