بقلم: حمادي بن جاء بالله - وما قيل على "داريوس الاول (-550ق م -486 ق م) يقال على مؤسس روما في القرن السابع قبل المسيح تقريبا وباعث مجدها رومليوس الاسطوري، وعلى الدولة الاموية، والدولة العباسية، ومملكات اوروبا، وعلى جل الدول التي قامت في التاريخ قبل العصر الحديث. فليس ثمة دولة واحدة يمكن لها ان تدعي" شرعية مسبقة" تشهد لها اسباب معقولة او مقبولة. اذ قامت جميعها على "الحيلة " او "العنف". غير ان الكثير منها اكتسب" شرعية لاحقة " بفضل ما أنجز للأمة. وبهذا التقدير البراغماتي تصبح "الشرعية" فكرة ذاتية لا اهمية لها في المجال السياسي البراغماتي. فالأقرب الى الحق في تقديري ان العرب الفلسطينيين والأردنيين والسوريين الذين يرزحون تحت نيران الاستعمار الصهيوني، سواء في كامل فلسطينالمحتلة، او في جهة بحيرة طبرية، او في الجولان، يعيشون اوضاعا اقتصادية، قد تكون احيانا افضل ماديا، من اوضاع اخوانهم العرب في الارض العربية ولكنهم يعيشون قيميا- تحت رحمة الاستعمار اي سلطة لا شرعية، وبالتالي في اوضاع لا يكون فيها الانسان انسانا. ونستبين من خلال ما اسلفنا ان غزارة الخدمات وحجم الانجازات يمكن ان تكسب صاحبها مشروعية براغماتية تعوض عند البعض المشروعية المبدئية. وكثير هي المؤشرات الدالة على ان منظري السلطات القائمة سعوا في هذا الاتجاه غير انهم فشلوا فشلا ذريعا. فاذا نحن وضعنا بين قوسين طريقة الوصول الى الحكم وصرفنا النظر عن شرعيتها او لا شرعيتها بقي علينا سؤال ما أنجز الحاكمون بأداة الحكم؟ والسؤال مشروع حتى حين لا نغبط احدا حقه فنطالبه بما لم يستطعه الاوائل. وقد سبق ان نبهت مرارا الى انه من الحيف مطالبة الحكومة الحالية بالقضاء على تخلف القرون. ان ما نلمسه، بما لم يعد اليوم يحتمل الشك او يسمح بأمل، ان الحكومة الحالية عاجزة تماما عن الحكم، لا لقلة خبرة، وهو امر بين بذاته، ولا لما تتميز به جميع المراحل الانتقالية في العالم من تكاثر المطالب اولا، وتزامنها ثانيا، واستعجالها ثالثا، ولا لما تلقى الحكومة من رقابة عليها من قبل المجتمع المدني. فالرقابة من ضرورات جميع ضروب التعاقد، وفي مقدمتها التعاقد الاجتماعي-السياسي بل خلافا لذلك كله- لان الحكومة الحالية غير مؤهلة اصلا للحكم. وليس من اسباب هذا العجز الاستناد الى "خلفية دينية " كما يدعي "فلاسفة السلطان"، بل عوج لا تدارك له في فهم الدين وفي مقاربة مقاصده. ويتمثل هذا العوج في تحويل "المثل العليا " توهما إلى وقائع "تلتمس لها شواهد مزورة في التاريخ. ولو كنت اميل الى التفلسف في هذا الموضع، لقلت ان الحكومة الحالية ليست مخطئة بل هي واهمة. فالخطأ يمكن الانتباه اليه ذاتيا او بإشارة خارجية، فهو الى زوال وان طال مكوثه، اما الوهم فلا تدارك له إلا بالتخلي عنه كليا. ولو اهتدت الحركات السياسية التي تتخذ من الدين تكأة الى هذا الحل الصحيح، لأصبحت مجرد أحزاب مدنية لا فضل لها على اي حزب آخر ولكنها لن تكون مضطرة الى التسطير، والمغالطة، والتسويف، وتعدد المواقف، وتكاثر الدلالات للفظ الواحد في غير داع موضوعي، إلا داعي الايهام القاضي بالمعاودة والطرق الايديولوجي حتى تنقلب الكلمات أشياء والوعود انجازات، والفشل الذريع نصرا مبينا. ان هؤلاء الساسة يطلبون المحال. ومما زاد فشل الحكومة القائمة تفاقما أنها اقبلت في حقد دفين -على تغيير نمط المجتمع وإفساد قيمه، وإنهاك مؤسسات الدولة، اكثر مما اقبلت على تحقيق مطالب "الثورة" وهي "الشغل والحرية والكرامة الوطنية". وتلك امور اصبحت اليوم بينة بذاتها وموضع اجماع وطني شبه كلي مما يقوم دليلا على فساد الانحياز ذهب بشرعية الانجاز. فهل بقي للشرعية الانتخابية معنى؟ 2 - في انقراض الشرعية الانتخابية ان عدم الشك في الشرعية الانتخابية لا يمنع دون مساءلتها عن حدودها وشروط صحتها، حتى تبقى انجازا بشريا له ماله وعليه ما عليه. ولنصرف النظر اولا عما يطالعنا به البعض من تقول يخص شراء الاصوات وبيع الذمم وما يتندر به الكثير في قرانا وأريافنا من ممارسات لا تليق بالكريم لاسيما حين يقع استغلال ضعفى الناس ويستباح بؤس اوضاعهم لأغراض انتخابية. ولنصرف النظر ثانيا عما يتردد بين الخاصة والعامة من حديث حول تمويل الاحزاب و"الانفلات المالي" الذي فاضت خيراته على البعض دون الاخرين. ولنصرف النظر ثالثا عن الجانب الفني في العملية الانتخابية ذاتها مما لا ييسر على الكثير من التونسيين-ولا سيما الاميين منهم- اصابة الاختيار الذي يفضله. والأكيد ان تلك الصعوبة كانت متزايدة بتزايد عدد المرشحين. ومع ذلك، يبقى لنا ان نتساءل عن القيمة السياسية الحقيقية لعملية انتخابية لم يشارك فيها إلا ما لا يكاد يتجاوز نصف المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب قانونيا؟لاشك على ان نسبة المقترعين لا تأثير لها على قانونية العملية الانتخابية، ولكنها ذات معنى بعيد يخص استقامة معانيها الاجتماعية-السياسية. ولا حاجة بنا للتذكير بان مليون ونصف من الاصوات اعطت حوالي 40 في المائة من اعضاء المجلس التأسيسي ومثل ذلك لم يعط شيئا، بحكم انعدام التجربة الانتخابية وغياب تقاليد التحالف. ولا حاجة بنا الى التذكير بمدى قيمة منصب رئاسة الجمهورية الذي لم يكلف من فاز به الا 7000 صوت فلم يكن فوزه بإرادة شعبية فعلية وإنما بفعل تحالف ظرفي لاشأن للإرادة الوطنية به. ولئن لم يكن من وجاهة للاعتراض على اي كان من الفائزين في الانتخابات بسبب ضعف الاقبال عليها، او تشرذم المرشحين، أو الافراط في تعدد القوائم او لعبة التحالفات المألوفة في جميع الديمقراطيات الراسخة، وان لم نبلغ ذلك المستوى بعد، فليس-في المقابل - لأي كان من الفائزين ان يفتخر زيادة عن اللزوم بشرعية انتخابية لا تخفى نسبيتها ولا نقائصها سياسيا واجتماعيا-على ذي بصيرة. وليس من مفاخر اي كان ان تكون تلك هي مصادر شرعيته. ولا ريب ان ما نشهده حاليا من تذكير مكرور بالشرعية الانتخابية، دال على عدم رسوخ السلطة، وربما على تأزمها، وتخلخل ثقتها بنفسها، بحكم تواضع شرعية مصدر السلطة من جهة، وبسبب وهن شرعية الانجاز من جهة أخرى. لذلك آل أمر الماسكين بالسلطة في تونس الى ما لا يحسدون عليه. اذ غدت حجتهم الكبرى على شرعيتهم، وأهليتهم للحكم، واستقامة حالهم حجة سالبة اي فساد الحكم السابق، حتى لكأن "قوتهم " مستمدة لا مما يفعلون بل مما لا يفعلون، وحتى لكأن فضائلهم مستمدة من نقائص غيرهم، ومروءتهم عامة من لؤم غيرهم على افتراض صحة ما يدعون. والحق انه ليس في فساد طرف ما يشهد سلفا لصلاح طرف آخر اذ قد يشملهما الفساد معا وهو على كل حال ما تتهم به الحكومة الحالية اذ ترمى علنا بالمحاباة وتتهم باعتماد نظام الولاءات والإصرار المرضي على تحزيب مؤسسات الدولة. وطبيعي أن يفضي هذا المنطق بأهله من حيث احتسبوا ام لم يحتسبوا- الى مزيد الانغلاق على الذات، والى تحديد اكثر صرامة لدائرة الانتماء العقدي والامتداد الهووي. وهو ما يقتضي آليا شيطنة جهة ما لتكون موضع اللعنة الدائمة و"شماعة" الفشل المحتوم. فالمنطق الهووي يقضي على الدوام بان براءة الأنا تتناسب طردا مع "اثم" الآخر اي مجموع ما ينسب اليه من قوى الاعاقة عن الخير. ولعل ذلك ما يفسر إلحاحهم المتزايد على التذكير بمساوئ الأمس، واختصاص انفسهم بالوقوف ضدها وإصرارهم على "اقصاء التجمعيين" حتى لكأن نفي "التجمعي" من ضرورات تحديد "الهويه" واثبات براءة "الانا "وهو أمر لا يسلم به احد قضائيا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا إلا لضرورات بناء المستقبل. غير ان المستقبل لايبنى بفتات الماضى ولا بعقلية الاقصاء ولا بروح التشفي. 2/-ومما يشير في جلاء الى تلازم الظاهرتين، فقر الانجاز وتخلخل الثقة بالذات، ما نشهده في فترات تتزايد اقترابا من تذكير بكائي " بالنضالية في سنوات الجمر"، ليجعل منها القائلون بها على هواهم رافدا للشرعية الانتخابية، فضلا عن تقنيات التأثيم لافتقاد "البدر في الليلة الظلماء". ويعول الحاكمون على هذه "الوصفة" السياسية-النفسانية التأثيمية في غلاف ديني، لكسب التأييد في الحال والاستقبال. وما يثير الانزعاج في هذه" الوصفة"، انها لاتدل على ارادة الآخذين بها، في المساهمة في رفع مردودية الشعب السياسية، بمزيد تدريبه على الاختيار، وعلى التوحد والانتظام المجدي، بل هي تحرص على الاستفادة من مصاعبه وتشتته اي مجمل مخلفات العهد الدكتاتوري، على غرار ما تستفيد من فقر فئات من ابنائه او اميتهم، وهي ايضا من اثار الدكتاتورية البائدة. وفي هذا الاعراض عن معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية ولا سيما في الحرص على الاستفادة منها، ما يشير الى مواقف انتهازية خطيرة لابد من تدبرها اتقاء لما قد يلحق الوطن من "انانية " قوم لا يسعدون الا حين يكون الوطن في حداد. فإمساك حوالي 50 في المائة من الشعب التونسي عن المساهمة في العملية الانتخابية، ليس بالأمر الهين سياسيا واجتماعيا، لا سيما ان المعرضين هم من الفئات الفقيرة والأمية بدرجة أولى وان لم تدرس علميا حتى الان، وبالتالي فهم المهمشون اقتصاديا وثقافيا ثم هم المقصون في عفوية، لا تعي اثامها، من المجال السياسي.