تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث ثورة الحرية (2): في حاجة الديمقراطية إلى تدبير الانفعالات الجمعية
نشر في الشروق يوم 10 - 09 - 2012


الطبيعي والثقافي

لن يكون سعي المرء على شيء، ما لم يكن سعيا إلى استيفاء شروط بناء الحقيقة في الأذهان لبنة فلبنة، وانجاز الحرية في الأعيان يسيرا يسيرا. ولن يكون له ذلك ما لم يحقق كل يوم انتصارا على خطا أو وهم ما وما لم يقهر تبعية أو حتمية ما، من تلك الأخطاء والأوهام والتبعيات والحتميات الغالبة على وجوده الطبيعي في تلقائيته وعلى وجوده الثقافي في بداهاته الأولى ومسلماته اللاشعورية. ومن علامات هذا الضرب من الوجود الفاسد ان تؤخذ القيم مأخذ الأشياء، والإلف الاجتماعي مأخذ الضرورة العقلية ، والعادة مأخذ القانون الكوني، حتى يستقر في الوجدان وفي الأذهان أن نمط الوجود الذي وجدنا عليه صدفة هو الحق، وان ما سوى ذلك ضرب من الضلالة . وهكذا تستولي على النفوس فكرة انقسام العالم إلى» فسطاطين « : فسطاط «الهداية « وهو دار «السلام» على الدوام، وفسطاط «الضلالة» وهو دار «الحرب» في الحال أو في الاستقبال.

وعن هذه الرؤية تصدر «العرقيات» على اختلافها، وفي هذا المناخ تنشأ الدعوات إلى حروب الثقافات والحضارات، وتقع شعوب في أخطاء لا تدارك لها تفضي بها إلى مهالك لا قاع لها. و يبدو أن مقياس صلاح الأنظمة السياسية إنما العمدة فيه على مواقفها المبدئية من مسالة العلاقة بين الطبيعي والثقافي، وهي تتوقف إلى حد بعيد على طريقة معالجة الانفعالات العامة والرأي السائد. فعلى ما في المسالة الأولى من المصاعب المنهجية والموضوعية تخص التمييز بين «الطبيعي « أو «الفطري» آو «الغريزي» من ناحية وبين «الثقافي» أو «الحضاري» من ناحية أخرى تميزا بالحقيقة لا بالاسم أو «المواضعة» ، فان القول بامتداد» الطبيعي «في «الثقافي»، فضلا عن تأكيد غلبته عليه، يفضي إلى نظام قيمي يدعو إلى مساءلته عن وجهاته.
العدل قيمة اخلاقية ام معطى طبيعي؟

لنضع جدلا على غرار ما يفعل الكثير أن المرأة «أضعف «من الرجل بالطبيعة وأنها كائن تستولي العاطفة فيه على الحكمة العقلية بالذات لا بالعرض، وأنها مجبولة على خصال دون أخرى، ومهيأة بالفطرة إلى أعمال دون غيرها، فهل يلزم عن ذلك ضرورة أنها في مرتبة دون مرتبة الرجل، وانه ليس لها إلا أن تقبل سلطانه عليها، و أن لا تطالب بحق يتمتع به دونها؟ ألا نكون عندها أضفنا إلى «حيف» الطبيعة حيف الإنسان؟ فإن صح أن الطبيعة «جبلتها» «على «نقيصة» ما ألا يكون «الواجب» أن نسعى إلى تلافيها بضرب من «التعويض « تسترد به «المساواة» المبدئية الضائعة؟ ومن أدرانا أن «الطبيعة « نفسها لا تصلح بيد ما قد تكون أفسدته بالأخرى، فمكنت للمرأة من أسباب حرمت منها الرجل فيتساويان من خلف الفوارق الفيزيولوجية الظاهرة؟

لما طرح أرسطو في عمله البيولوجي سؤال تعليل موضع القلب الى اليسار من الجسد مما يفسد ظاهريا مبدأ التناظر كما يصوغه قانون الرافعات عند ارخميدس وكما يمثله في الحس ميزان روبار فال المستخدم في وزن السكر والشاي عند صغار التجار، بين أن «الطبيعة لا تأتي شيئا عبثا». فهي إنما جعلت القلب إلى اليسار لتحقيق توازن بين الجهتين باعتبار أن اليمين «أفضل» من «اليسار» وبالتالي فهو «أثقل منه بالطبع» أي بالضرورة الانطولوجية. ولذا وجب أن يضاف إليه «ثقل» لتتعادل الجهتان، فكان أن وضع القلب حيث هو ولو انتقل عن موضعه لفسد نظام الجسد وربما نظام الكون لما بين الكونين «الصغير» و«الكبير» من التناظر.

وبصرف النظر عن سذاجة التفسير الأرسطي فهو يلتئم على معنى يحسن بنا تأمله وهو على ما يبدو أن الطبيعة قائمة مبدئيا على المساواة رغم الاختلاف الظاهر أو قل إن الفرق الطبيعي كالفرق الفيزيولوجي بين المرأة والرجل لا يعتمد للقول بفرق قيمي بحيث لا يكون احد «أفضل» من الآخر.
ابن رشد ام الغزالي

ولما كان الأمر كذلك استبان لنا أن ما يشار إليه تلميحا أو تصريحا من دونية وضع المرأة مما لا يؤهلها للمساواة بالرجل إنما هو مجرد وهم ثقافي راسب عن صروف التاريخ ونحلة الناس إلى المعاش. ذلك -على الأقل- ما بينه ابن رشد قبل قاسم أمين والطاهر الحداد نظريا، وقبل أن يتخذ بورقيبة القرار التاريخي بالعمل على تجاوزه سياسيا. فإذا استقام في الذهن «أن النساء والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم في(الأفعال الإنسانية)وان اختلفن عنهم بعض الاختلاف، أعني أن الرجال أكثر كدا في الإعمال الإنسانية من النساء» (ص124 من «الضروري في السياسة»).

ولئن كان للتحفظ الرشدي ما يبرره في العصور الوسطى، فانه لم يعد ثمة ما يدعو اليه في عصر التقدم التقني والتكنولوجي حيث تكفلت الآلات بما كان يوكل أمره لقوة العضلات. وعندها يكون من المنطقي أن «دونية المرأة» ليست ظاهرة طبيعية بل هي من إنتاج المجتمع الذي اكرهها كما يقول ابن رشد على أن تكون في منزلة «الأعشاب». «فإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن (مدن الأندلس)لأنهن اتخذن للنسل دون غيره وللقيام بأزواجهن وكذا للإنجاب والرضاعة والتربية فكان ذلك مبطلا لأفعالهن الأخرى. ولما لم تكن النساء في هذه المدن مهيئات على نحو من الفضائل الإنسانية، كان الغالب عليهن فيها أن يشبهن الأعشاب». (ص 125).

ويخلص الفيلسوف العربي من ذلك إلى ما لهذا البؤس الاجتماعي الثقافي الذي ردت إليه المرأة من نتائج وخيمة على الحياة الاقتصادية في حضارة اضطهاد النساء. «فلكونهن حملا ثقيلا على الرجال صرن سببا من أسباب فقر هذه المدن» (م. ن).

ولا ريب انه لا شان للإسلام بهذا الدرك الأسفل الذي طاحت فيه المرأة العربية المسلمة، بل يتعلق الأمر بتأويل متخلف يتخفى في غلف فقهي ديني من علاماته إن يسمي «الوأد» آدابا، والاعتداء على الحرمة الجسدية مكرمة، ونفي الذات عفة وحياء . أليس ذاك ما انتهى إليه الغزالي مثلا عندما ذهب مطمئنا إلى إن «القول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها (.. )تحفظ بعلها في غيبته وتطلب مسرته في جميع أمورها ولا تخونه في نفسها وماله ولا تخرج من بيتها الا بإذنه فان خرجت بإذنه فمتخفية في هيئة رثة تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها ولا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها ال .. (إحياء علوم الدين ج2 ص61 من طبعة دار احياء الكتب العلمية د. ت. ).

التونسيات في مقام الكرامة الإنسانية والعزة الوطنية

وليس أدل على فساد هذا الضرب من التفكير ما قاسته المرأة التونسية في سبيل لقمة العيش البسيطة دون أن تفرط في حق الوطن حتى حين يميل الرجل إلى اللين أو المهادنة. فقد جاء في محاضرة ألقاها احد علماء الانطروبولوجيا الفرنسيين على منبر جمعية الانطروبولوجيا بباريس نشرت بمجلتها في عددها الصادر بتاريخ 5 أفريل 1906 (ص174-186) أن الإدارة الاستعمارية بالجنوب التونسي ولا سيما بجهتي غمراسن ومطماطة لم تجد إلى قلوب الأهالي سبيلا رغم الإغراءات ومشاريع «التنمية الريفية» التي كانت تقترحها عليهم، بعد «استشارة» الأهالي والرجوع إلى «مشايخ الدوار « و»خلفاء القبائل» و»قيادها»وبعد تدارسها في «الميعاد» و مجالس «الجماعة « وموافقة أهل «الحل والعقد» عليها. غير أن السلط الاستعمارية كانت تباغت من الغد برجوع الجميع في ما تم الاتفاق عليه بالأمس رجوعا لا مبرر له –في الظاهر-ولا يقبل أصحابه حتى مجرد تعليله، على ما في المشاريع المبرمجة من نفع لجهة لا يكثر فيها يومئذ إلا الحصى، تجعل لساكنها معيشة ضنكا.

وبعد البحث والتحري أدرك المستعمر أن أهل «الحل والعقد» إذا ما رجعوا إلى أهلهم وأخبروهم بما وقع الاتفاق عليه رفضنه رفضا لا معقب له، فيضطر الرجال إلى التراجع في ما كانوا وافقوا عليه ولا حيلة لهم إلا نقض الاتفاق على مرارته أخلاقيا . ويصف المحاضر موقف النساء التونسيات بأنه موقف «غاية في الرجعية « فيما تراه صاحبات الشأن غاية في الوطنية كما يعشنها في أعماقهن لاكما ينظرها «المتفيهقون». فالأمر يدعو عندهن –ولو لم يفصحن به للأمية في غير جهل -- إلى مقاطعة المستعمر مقاطعة مطلقة في انتظار أن نقوى على طرده بالقوة. ولعل ذلك ما جعل المستعمر -يدرك منذ بداياته في تونس أن لا مستقبل له على هذه الأرض. فقد نقل المحاضر عن المسئول العسكري رفيع المستوى مايلي :» ان ما يفصلنا فصلا لا تدارك له عن ابن البلد ليس عاداته ولا جهله ولا لغته ولا دينه وإنما زوجته «(ص 184). ويضيف رافعا يديه إلى السماء في علامة عن يأس لا مغيث له منه :» إنها زوجته وبالتالي أمه أيضا».

ما هو الآن وضع هذه المرأة الصامدة الصامتة بصرف النظر عن «أميتها» التقليدية التي تشترك فيها مع أختها «الحضرية المترفة ؟ يقول المحاضر إنها كانت تعود مساء إلى المنزل بعد يوم من العمل الفلاحي المضني وهي تحمل على ظهرها أثقالا مفزعة. ولك أن تتصور ما ينتظرها بعد ذلك من أشغال المنزل وواجبات تربية الأطفال وآداب المعاشرة الزوجية، دون أن تشكو سوء المال، بل فخرها في شيئين، قوتها البدنية وخصب الإنجاب(ص184-185).

ولم تكن هذه المرأة المجاهدة تملك من اللباس إلا قطعتي قماش تشدهما إلى جسدها بحبل عند الخاصرة و»بإبزيم» عند الصدر بحيث إذا نظرت إليها من هذا الجانب اوذاك ألفيتها عارية دون أن تجد في ذلك حرجا، ودون ان يكون لها فيه ما يعبر عن تبرج يمس مكارم الأخلاق بل هي مكاره الفقر، الصبر على هوانها أفضل من الاحتماء بالاستعمار، وهي قساوة الوجود المتخلف التي لا يغني عنها البقاء في «قعر البيت « إن كان لها بيت بل لا يقي منها إلا عفة باطنية وأدب ذاتي لا يحتاج فيه إلى تسلط على الضمائر ولا إلى واعظ قد لا يحتمل وعظ نفسه لو عاش ما عاشت التونسية الأصيلة، تلك التي فضلت –خلافا لأختها الأندلسية - حياة الأتعاب على «حياة الأعشاب «.

وليست التونسيات بدعة في الحضارة العربية الإسلامية. فمن السودانيات من لسن اقل منهن تأصلا في قوة الشخصية ومنهن من كانت «أعظم شانا من الرجال» كما يقول ابن بطوطة (الرحلة ص 525 طبعة دار الشرق العربي بيروت د. ت) حين زار بلدة «ايوالاتن» حيث يعيش» مسلمون محافظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القران». غير أن «الغريب» و«العجيب» في أمر هؤلاء القوم عند الرحالة المغربي «أن نساءهم لا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات»(...). والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات( م ن 526) ويستوي في ذلك قاضي المدينة وعلماؤها وعامة الناس.. ولا يتسع المجال لتعداد أمثلة أخرى كثيرة مستمدة من عمق ارض مسلمة عامر قلبها بالإيمان مطمئن بذكر الله.
فقه ام انطروبولوجيا ؟


وهكذا نتبين خطل الإفتاء في غير محله ولغير أهله كما يدل على ذلك ما ذهب إليه الغزالي الحضري المترف من ضرورة لزوم المرأة» قعر بيتها» إلا أن ندعي أن ما يصح على «نساء المدر» لا يصح على «نساء الوبر» وما يصح على نساء بغداد العامرة لا يصح بالضرورة على بقية الأقطار الإسلامية قياسا مثلا على حكم النظر إلى المرأة الأجنبية عند الفقهاء؟ فحكم النظر إلى الأجنبية إذا تجاوز الأمر نظرة الفجأة وتعلق «بالحرائر» يختلف عن حكمه حين يتعلق الأمر بغيرهن ولا سيما من نساء «أهل الذمة بل مطلق الكفار(.. ) وقد تلحق بهن نساء أهل البوادي والقرى من الأعراب وغيرهم اللاتي جرت عادتهن على عدم التستر واذا نهين لا ينتهين « كما يقول الخميني الذي رشحه البعض من التونسيين ‹مباشرة بعد الثورة الإيرانية- إلى قيادة العالم الإسلامي وذلك في كتابه تحرير الوسيلة (ص224 من طبعة دمشق، 1998). وإذا كان الأمر كذلك إلا نكون انتقلنا من حيث لا نحتسب من «الفقه» إلى انطروبولوجيا الشرائع وعلم اجتماع القانون وصولا إلى «روح القوانين» ومقاصد التشريع في كل مصر وفي كل عصر؟ وإذا كان ذلك كذلك ألا نكون مجرد مجتهدين في الشأن الإنساني لانملك الحق في ادعاء القدرة على «الحكم بما انزل الله»؟ وإذا لم نسلم بذلك لم يبق لنا إلا إعلان الحرب أو كما يرهف البعض «إعادة الفتح».

غير أن الأهم من ذلك كله أن هذا الاحتمال الأخير يقوم شاهدا على الترابط البنيوي بين التصورات الوهمية من ناحية أولى والتقهقر القيمي من ناحية ثانية والوهن الحضاري من ناحية ثالثة . فالتصور الوهمي هو ذاك الذي يرد التاريخي المتغير إلى طبيعي ثابت كان يعتبر «جهل» المرأة من لوازم «فطرتها» لا من تبعات حرمانها من حقها في التمدرس، أو كأن تعتبر خشونة «الأعرابي» من مكونات «فطرة أهل الوبر» لا من نتائج شظف عيش أكرهته عليه «نحلته للمعاش». وهل من غريب الصدف أن يكون الكرم من المناقب التي لا تستحب في المرأة ؟ وأما التقهقر القيمي فهو صادر عن عملية رد القيمة بما هي وجوب يحرك الإرادة، إلى الواقع بما هو الموجود في معطيات الشعور المباشر. وتجري تلك العملية إلى إعلاء الواقع القائم إلى مصاف المثل الأعلى وكأنما ليس في الإمكان أبدع مما كان. و في ذلك منتهى مطمح ايديولوجيات تبرير القهر. وعن ذلك كله يترتب الوهن العام وتهزم الشعوب في معركة بناء الحضارة فيستولي الاستعمار بأشكال شتى على مقدراتها.
تدبير الانفعالات ام استغلالها؟

تلك رؤى عامة رأيناها ضرورية منهجيا لفهم حقيقة النظم السياسية من منطلق تصرفها في الأهواء والرغبات والأحاسيس والوجدان أو قل اختصارا الانفعالات الفردية و الجمعية باعتبارها وقائع نفسانية-اجتماعية واقعة على التخوم الفاصلة بين «الطبيعي «و»الثقافي « أو قل بين «الفطري « و»المكتسب « على ما يلقى النظر النقدي من مصاعب في رسم خط الفصل بين هذا وذاك. فمتى مال نظام سياسي إلى تزكية قيم الحرية و التسامح والاعتدال في الرأي والاقتصاد في الموقف فاعلم انه لن يكون الا ديمقراطيا. إما إذا جنح-سرا أو علانية- الى استنفار الحمية الدينية، واستثارة الغرائز فقد اختار-ولا ريب- مسلك التسلط والاستبداد. واستنفار الغرائز يكون سواء بالدعوة إلى إطلاق العنان لها باسم» التحررية «أو بالتركيز على ضرورة كبتها باسم» الأخلاق» آو الدين. وبالتالي فهو في كلتا الحالتين يجعل منها من حيث احتسب أم لم يحتسب هما اجتماعيا شاغلا ويحولها إلى بؤرة مركزية إليها تنصرف الاهتمامات وعندها تتلاقى المشاغل وتصرف الطاقات، لتكون فريق ضغط يسهل تحوله إلى تيار سياسي قدره أن يكون استبداديا بالذات لا بالعرض. وليس تصيره إلى الاستبداد بفعل تسلط الذاتي النفساني على الوجود الموضوعي الاجتماعي فحسب بل لعلة اخطر إذ يبدو أن الكائن الإنساني لا يقف –خلافا للحيوانات –عند اشباع الغرائز أو إفراغ الطاقات بل هو يمد بصره إلى ما يتجاوز الحاجة الموضوعية كالأكل أو الجنس في اتجاه إرادة الغلبة وبالتالي امتلاك السلطة.

ولعل ذلك ما يفسر أن الأنظمة السياسية الكليانية او الفاشية المدني منها والديني إنما تسند بشكل أساسي على تصرف السلطة القائمة أو الطامحة إلى القيام في الغرائز مثل الغريزة الجنسية وفي الوجدان ولا سيما الإحساس الديني أو الشعور بالانتماء القومي أو العرقي وفي الانفعالات مثل الغضب اللازم عن ثقل الإحساس بالضيم.

فأما المسالة الأولى فتختزلها رمزيا على الأقل مسألة مكانة المرأة في المجتمع المدني وما يحف بها من خيالات قد تبدو أخلاقية أو دينية، ولكنها في حقيقتها سياسية. وأما المسالة الثانية فتظهر أكثر في خصومة «الهوية» عامة وما يتصل بها من قيم متوارثة يذهب الظن القاصر إلى استحالة الوجود مع مجرد تجدد النظر إليها فضلا عن إرادة الاستغناء عنها، وما ينتج عن ذلك كله من تنازع قد يفضي أحيانا إلى التصاف والمقاتلة لا قدر الله.. وأما المسالة الثالثة فمجالها صراع بين «الأهواء» «والعواطف « و»الحدوسات « و «الظنون « و»التوجس» المترسبة عن طول معاناة المظلوم أو الحقد الدفين، وبين رزانة التعقل بما يوجبه من احترام الحريات والحقوق وكرامة الإنسان، فردا وجماعة.

وعلى هذا النحو يكون إشكال التصرف في الفطريات و الانفعالات والوجدانيات على أوثق الصلة بإشكال منزلة الإنسان رجلا كان أو امرأة في الفكر السياسي و إشكال انتمائه الحضاري والثقافي وإشكال العقلانية في موضع مغالبة الهوى انتصارا لإرادة التسامي في درجات المروءة بدل السقوط في دركات اللؤم.
مدرسة الجمهورية هي المؤتمنة بحق على تحقيق قيم ثورة الحرية

اليست تلك هي مجملة عوائق ثورة الحرية اليوم في تونس؟ أليس المشكل السياسي بامتياز عندنا هو من نوع المشاكل التي تتطلب مقاربة نفسانية واجتماعية وقيمية وتاريخية تتيسر بها سبل المعالجة السياسية مادام الأمر يدور على معاني التصرف في «الشأن النفساني الجمعي» عامة والانفعالات الاجتماعية خاصة ؟ وإذا كان ذلك على ما بينا في اختصار شديد، ألا يكون فيه ما يشير إلى حاجة مسار الانتقال الديمقراطي إلى التبصر النظري الصرف عسانا نهتدي معا إلى الطريق الآمنة لتحقيق غايات الثورة الوطنية القائمة وهي كما هو متعالم «الشغل والحرية والكرامة الوطنية «. ألا ننتهي عندها إلى إعادة اكتشاف ما حجبته عن وعي أو عن غير وعي «ضوضاء مساعي» الثورة المضادة ونعني بذلك حاجة البناء الديمقراطي إلى العلم؟ وإذا كان العلم بكل ضروبه من انتاج مدرسة الجمهورية ألا تكومن مدرسة الجمهورية هي المؤتمن القوي على بقاء الجمهورية ونمائها ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.