يتهيّأ التونسيون والتونسيات، خلال الفترة القريبة القادمة للتوجّه إلى صناديق الاقتراع قصد انتخاب ممثّليهم في المجلس الوطني التأسيسي، المحطّة السياسية المفصليّة التي أفرزتها انتفاضة الحرية والكرامة وبحسن التذكير ان اقرار المجلس التأسيسي، مطلبا سياسيا شعبيًا، لم يكن أمرا سهلا بالمرّة فثمنه كان شهداء سقطوا في ساحة الحرية ودماء روت أرض تونس، ومقاومة باسلة لاحباط مؤامرات اجهاض هذا المطلب العزيز على كل تونسي وتونسية، مؤامرات دبّرها رموز النظام القائم المدعومون دوليا وآخرها مؤامرة الاستفتاء التي أسقطها التونسيون والتونسيات يحدوهم أمل كبير في جعل هذه المحطة منطلقا لتحقيق نقلة سياسيّة واجتماعية مستجيبة تطلعاتهم الوطنية والسياسية والاجتماعية. والسؤال المطروح: هل تحقق انتخابات 23 اكتوبر 2011 انتظارات التونسيين والتونسيات منها؟ للاجابة عن هذا السؤال، يتعين تشخيص الواقع السياسي الحالي وتحديد أهم الاطراف الفاعلة فيه، وتعيين ميزان القوى القائم بينهما من سمات الواقع السياسي في توس اليوم أن جانبا لا يستهان به من الشعب يبدو وكأنه غير معنيّ بهذه الانتخابات لاسباب تاريخية معروفة تجد صورتها في حالات الاقصاء والالغاء والتهميش التي لازمت حياة التونسيين اثناء حكم بن علي على وجه الخصوص، بحيث ولّدت عزوفا لديهم عن الاهتمام بالشأن السياسي يصل إلى حدّ اللامبالاة، الى جانب خوف ترسّخ في النفوس ونظرة مرتابة الى السياسة وأهلها، مردّها، نظام الحكم البوليسي القمعي المسلط عليهم وانسداد الافاق أمامهم وغياب التأطير السياسي الهادف الى اعادة الأمل الى نفوسهم، بسبب ضعف قوى المعاضة في تلك الفترة الحالكة من تاريخ تونس تلك الروح التي باتت طاغية على جانب من التونسيين لا يمكن استئصالها بين يوم وليلة، والمفارق في الصورة ان المستهدفين بالانتخابات، يبدون غير متجاوبين بل لنقل غير جاهزين للاسباب التي ذكرنا وهم معذورون في ذلك ولا شك ان هذا الامر سوف يؤثر بالسلب على النتائج النهائية للانتخابات وما يمكن ان ترسمه من آفاق والامر اللافت الاخر هو ان جل الاحزاب الموجودة على الساحة والتي هي مدينة بوجودها لقانون الاحزاب الجاري به العمل اثناء حكم بن علي، محافظة بطبيعتها وتناهض التغيير، فأقصى ما تؤمّله إعادة انتاج النظام السياسي لبن علي وعصابته وهي في الجانب الاوفر منها امتداد للتجمع الدستوري السيء الذكر، ولا يخفى أن السماح لها بالنشاط القانوني يدخل في خانة المخططات الرامية الى الالتفاف على المسار الثوري الذي دشنته انتفاضة الحرية والكرامة في تونس ثم ان كثرتها العدديّة مقصود بها تعويم المشهد السياسي، وارباك الناخبين وافراغ الانتخابات من قيمتها السياسيّة واجهاض الانتقال الديمقراطي في تونس. وإلى جانب الاحزاب الاولى توجد احزاب أخرى اقدم منها تاريخيا والمقصود بها تلك التي مارست بهذا القدر أو ذاك معارضة لحكم بن علي وتجدر الاشارة إلى أن غابتيها لم يكن خلافها مع نظامه خلافا جوهريا، ذلك ان مبتغاها هو تقاسم السلطة معه، بل كان يكفيها مجرد الحصول على منصب سياسي في حكومته وقد أضفت تاريخيا شرعية على سياسته بقبولها ببعض المقاعد التي كان يجود بها عليها في برلمانه الصّوري المزوّرة انتخاباته كما يعلم القاصي والداني ولا أدل على ذلك من تهليل بعضها للاصلاحات التي وعد بها في الايام الاخيرة من حكمه وكذلك من خلال مشاركتها في حكومتي محمد الغنوشي الأولى والثانية، ومناهضتها السافرة لمطلب المجلس التأسيسي، ثم مغادرتها الحكومة بصورة انتهازية بعد ذلك حين علمت انه لا يحق لها الترشيح، ما دامت طرفا فيها وينهض انخراطه في حملة انتخابية قبل الاوان والانفاق عليها دون حدود من مصادر مالية مجهولة الهوية انفاقا يفوق مقدّراته الحقيقية دليلا آخر على صحّة ما ذكرنا هذا الطرف سكن وسائل الاعلام السمعي، البصري الرسميّة والخاصة ليقوم بحملته تلك بصفته الجواد الذي يراهن عليه التحالف الطبقي الحاكم المرتبط عضويا بالامبريالية للالتفاف على المسار الثوري الذي انطلق في 17 ديسمبر 2010 واجهاضه ومن ثم الرجوع بتونس الى ما قبل 14 جانفي 2011. ويضاف إلى ذيْنك الطرفين طرف سياسي يمني مغرق في المحافظة يستعير قناع الديمقراطية خدمة لما ربه السياسية ذاك الطرف هو في الواقع احدى تعبيرات التحالف الطبقي السائد في تونس وان لم يكن في موقع السلطة راهنا هدفه الاسمى الرجوع بالتونسيين والتونسيات الى انظمة حكم متجاوزة بحكم الصيرورة التاريخية وتعرف عن هذا الطرف مناهضته التغيير بالمعنى الايجابي للكملة وبكونه أحد الاختيارات الذي تراهن عليه الامبريالية العالمية لإدامة هيمنتها على تونس وباقي الاقطار العربية الشبيهة بها والملاحظ ان هذا الطرف لم يكن له دور يذكر في الانتفاضة الشعبية التونسية الاخيرة والمفارق في الامر أنه وجد نفسه ممتطيا صهوة الهبة الجماهيرية مستندا الى شرعيّة السجن، باعتبار ان عديد رموزه قد اضطهدوا وحوكموا اثناء حكم بن علي. في الجانب الاخر من المشهد نجد أطرافا سياسيّة تنتمي الى الطيف اليساري والقومي وهي وان تبنّت مبدأ التغيير ودافعت عن خيار المجلس التأسيسي فالعديد منها يبدي تردّدا وعدم وضوح في المواقف فهي في وضع بين الاقدام والادبار بحيث لا تبدو مستقرّة على حال بعضها يرفع سقف المطالب حينا لينزل به حينا آخر ويطرح خطابا جذريا ويسلك سلوكا مهادنا غير منسجم مع خطابه ذاك ومردّ ذلك اسباب مختلفة منا ما يعود الى حالة التهميش والتقزيم التي عانت منها تلك الاحزاب تاريخيا ومنها قلّة الالف بالعمل الحزبي العلني المنظم ومنها ما يعود الى اسباب فكرية عقائدية خاصة حيث لم ترتق تلك الاحزاب الى متطلبات اللحظة بصياغة تحالف يجعلها رقما معتبرا في الساحة الساسية في تونس اليوم، الامر الذي يقضي لا محالة برجحان ميزان القوى لصالح الاحزاب اليمينية الرجعيّة المناهضة للتغيير الا ان حركة الوطنيين الديمقراطيين قد تميّزت من بين الاطراف اليساريّة بوضوح رؤيتها وصواب تقييماتها، رغم حداثة عهدها بالعمل الحزبي المنظم وضعف مواردها المالية حركتنا هذه ناضلت في سبيل اقرار المجلس التأسيسي، وحل التجمع الدستوري الديمقراطي، وتعليق العمل بالدستور، وحل مجلس النواب والمستشارين وكانت لها مساهمتها البناءة في صياغة القانون الانتخابي الجديد وتشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يحدوها عزم لا لبس فيه على القطع مع سياسات الامس القريب القائمة على الفساد والافساد، الخادمة لمصالح رأس المال المالي العالمي والتأسيس لمرحلة جديدة تكون السيادة فيها للشعب الذي يمارس السلطة ويقرّر مصيره بنفسه ويتحكم في مقدّرات بلاده ويتصرف فيها بما يخدم مصلحته الامر الذي يكرّس تغييرا سياسيا واجتماعيا حقيقيا، يتناسب مع مرحلة التح الوطني التي تمر بها تونس ذلك ما يفسر شعار الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية الذي رفعته فالجمهورية شكل حكم راق بالقياس الى ما كانت عليه تونس من استبداد وافراغ للنظام الجمهوري من محتواه، حيث تحوّلت الجمهوريّة الى ملك ابّان حكم بورقيبة وبن علي، وعبارة ديمقراطية تستدعي ممارسة الشعب سيادته السياسية ومشاركته المباشرة في اختيار من يتولّى ادارة شؤونه اما صفة الاجتماعية فتؤسس لتغيير نظام التنمية واسلوب توزيع الثروة المنخرمين من أصلهما لفائدة جهات وأطراف اجتماعية محظوظة، وعلى حساب السواد الاعظم من الشعب ممّا يجعل الجهات المهمّشة والطبقات المفقرة تاريخيا من تنال نصيبها من الثروة والتنمية وحقها في العيش الكريم، بما يدرجها في الدورة الاقتصادية الوطنية ويهيّؤها بالتالي للارتقاء اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وهذه عناصر لابدّ منها باعتبارها اساسا تنهض عليه كل نقلة مجتمعية أرقى، وهذا ما يفسر أن حركتنا لم تطرح شعار ديمقراطية شعبيّة منوالا للحكم فنحن في بداية مسار والمراحل غير المعبورة كثيرة قبل الوصول الى نظام الديمقراطية الشعبية كما يفسرعدم طرحها شعار الاشتراكية وتأميم الثروات، على أساس انها شعاران سابقان لاوانهما حيث لابدّ من بلوغ هدف التحرّر الوطني أولا وتوفير الشروط الموضوعية لبناء الاشتراكية وتقبلها مثلا اعلى اجتماعيا وسياسيا ولهذه الاسباب فحركتنا تعتبر انتخابات المجلس التأسيسي مجرد محطّة على درب استكمال المهام التي يطرحها المسار الثوري وخطوة على طريق انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الافق الاشتراكي في تونس. وهكذا فالصراع القائم اليوم ارتباطا بانتخابات المجلس التأسيسي طرفاه أحزاب رجعية لا وطنية عميلة هي في عداد قوى الثورة المضادة من جهة وحركة الوطنيين الديمقراطيين وسائرالقوى الوطنية والديمقراطية الاخرى المتمسكة بانجاح انتخابات المجلس التأسيسي، الدافعة بالمسار الثوري في اتجاه تحقيق مهام أرقى من الجهة الاخرى وذلك رغم اختلال ميزان القوى لصالح الطرف الاول المسنود بالمال السياسي، وأجهزة السلطة الحاكمة والدوائر الامبريالية العالميّة، المستفيد موضوعيا من عدم جاهزيّة جانب لا يستهان به من التونسيين للمشاركة بفاعلية في الانتخابات المتوقعة حيث انه لا يكفي تشكيل هيئة عليا مستقلة للانتخابات وخلق مسار انتخابي جديد خلال بعض الشهور المعدودة لقلب ميزان قوى نشأ وتعزّز خلال مجال زمني يفوق الخمسين سنة لفائدة تغيير يكرّس استقلال الوطن ويخدم مصلحة الشعب.. إنّ ما يجب تأكيده في الاخير هو أن المسار الثوري في تونس معرّض لخطر حقيقي بحيث لم يتبقّ أمام القوى الوطنية والديمقراطية التونسية سوى رصّ الصفوف ونبذ الحسابات الخاصة المعبّرة عن ضيق أفق وقصر نظر، لتفويت الفرصة على جميع المتربّصين بالمسار الثوري فتونس وشعبها أعظم من الاحزاب التي ربما أنساها البحث عن الموقع مهامّها الاصليّة ومهما كانت النتائج، وانخرام ميزان القوى لصالح القوى اللاوطنيّة الرجعية فالمكاسب محقّقة لصالح تونس وشعبها وقواها الوطنية والديمقراطية..