بقلم: رائف بن حميدة - من دون شك، الأزمة التونسية الراهنة جوهرها سياسيٌ، وهو في جانبه الأكبر امتداد وتصفية حسابات لصراعات السبعينات والثمانينات بالجامعة التونسية.. ورغم تجاوز تلك المرحلة (بدليل جبهة18أكتوبر2005)،فقد طفحت مجددا مع نتائجُ انتخابات2011 الغرائبية، التي رغم نزاهتها إداريًّا من حيث التزييف أوالسطو،لم تعكس حقيقة التوازنات، وهوما نعيشه الآن بالملموس، ففي حين أسندتْ عشرات المقاعد حتى لمن كان في صف الدفاع عن الديكتاتور، في تناقض مع فصل إقصاء المناشدين(15)!، قزّمت المناضلين الحقيقيين الشرعيين.. فكان المناخ أشبه بتشنج تلا خسارة في " طرح كارته"، فتولّد الإحباط والتذمر لدى البعض، والغرور والسخرية والتنابز بالألقاب لدى البعض الآخر، ومن ذلك كلمة "صفرفاصل"..وهكذا ،منذ البداية، تعكّرت العلاقة! لقد ترتب عن هذا المناخ العدائي الاستفزازي ضررٌ بالبلاد كبير: التسيب والفوضى والجريمة وتعطيل مجمل الاستحقاقات وعلى رأسها التنموية( رغم الاقتراض المتلاحق والهٍبات..وعلى كل حال، الحكومة لم تستلم البلاد في وضع ليبيا أو سوريا.. ولا الصومال!!!)..وهكذا خاب أمل الشعب الذي صار بين فكي كماشة..بين شظف العيش وبين الاسفزازوالتعدي (الشرّ والشماته !) وهو جحيم لا يطاق فاق أضعافا مضاعفة ما أشعل الثورة، اختزلته مشاهد القوارب المكتظة ب "الحراقة"، قواربُ موتٍ تراءت ، بسب هذا الجحيم، كقوارب للنجاة !.. وتختزله أيضا أعدادٌ كبيرة من الانتحارات الشنيعة التي فاقت مجمل ما سبقهاعلى مدى عقود..وأيضا أعداد كبيرة جدا من المواطنين الذين يقبعون الآن في غياهب السجون، وما هم بمنحرفين أوبمجرمين، وإنما دفعتهم الى هذا لحظة عجز عن إمساك الأعصاب في محيط ساد فيه التعدي والاستفزاز، فأودت بهم الى 5 أو 10 أوحتى 20سنة سجنا!!!... ولا ننسى أيضا تلك المجموعات السُّكانية المهاجرة مشيا على الأقدام الى بلد مجاور( لم يشهد مثلنا ثورة...ياسمين) طالبين التجنّس !! فهل هذا واحد من أهداف الثورة وقد تحقق !!؟ وهل هكذا تكون الحكمة والوطنية!!؟ لقد تجاوز الاستياء والتذمر"العوام"وشمل مختلف الوظائف الأساسية من مربين وجامعيين وأطباء وقضاة وأمنيين ونقابيين وإعلاميين بشكل غيرمسبوق ، وحتى نوابا بالمجلس التأسيسي الذي صارالطردُ المهينُ الذي لا يليق حتى بتلاميذ الكتاب، وسيلة للتعامل معهم!.. ومنهم الآن مضربون عن الطعام!! إنّ هذا الاحتقان سيؤدي حتما الى تكرارالانفجار.. وتماما كما قال المخلوع كلمته "التاريخية" : غلطونِي،فإنّ هذا الاحتقان ينذر بأنّ الجماعة سائرون الى قولِها...ولكن في هذه المرة ستكون الكارثة العامة.. يُؤثَر عن سيدنا عمر قوله:"لوعثرتْ دابة في العراق لسألني الله عنها لِمَا لمْ تمهّد لها الطريق يا عمر"...أما عمر بن عبد العزيز، حفيده من إبنته، فقد رفض طلبَ أحد ولاته في بناء سورللمدينة، وردّ عليه:"سوّرالمدينة بالعدل!"..ولكننا الآن نرى شعبنا الغلبان كله عاثرٌا!.. فالشعوب لا تساس إلا بالعقل وبالضمير..والحيلة في ترك الحيلة، أما محاولة السيطرة عليها باللّجُم وبمفاصل الدولة فقد سبق وإن نظّرلها الشابي فقال:(..لا بد للقيد أن ينكسر).. لقد كانت الثورة في الأصل حلما قديما فتحقق بإرادة موحدة ،عدّل بها الشعبُ وصحّح وجهة التاريخ بأرقى أدوات الحضارة، يؤرخ لها ذلك المشهد البديع في شارع بورقيبة يوم 14جانفي الذي انطلق من ساحة الاتحاد (بعدما احتضنت فروعُه الجهوية كاملَ التحركات طيلة أسابيع !) ..مشهد ساحر خلاب و مرعب أيضا ..اهتز له قلب المخلوع ففرّ هو وزبانيته الى مزبلة التاريخ...ولكن أيضا بعد ما أفسد البلاد فتركها بين تهميش ولامبالاة وبين صراعات وتجاذبات تكاد تكون طائفية ؛ هذا مؤمن وذاك كافر ،هذا رجعي أصيل وذاك حداثي متفسخ..تشاتم وتنابز كل ذلك لوّث الفضاءات الحقيقية والافتراضية وجرّ البلاد يوما بعد يوم الى الاحتراب، وهو مايجعل الحوار مطلبا ضروريا لا مفر منه كطوقِ نجاة وهو في مبادرة الاتحاد، تلك المبادرة نبيلة وضرورية لإنقاذ البلاد بالحوار الشامل، (حزبي ومدني)، ينقّي الأجواء والنفوس ويطرد الهواجس ويرأب جميع التصدعات ، فيجعل من الاختلاف تكاملا، لا تصادما كما نرى الآن من بدائية تَشِين أشد الشعوب توحشا.. إنّ مبادرة الاتحاد لا بديل عنها لإخراج البلاد من هذا المطب، ولا نبالغ إنْ قلنا هي يَد من خلال الموج مُدت لغريق! فمن رابع المستحيلات قيادة بلاد ، بشكل ديمقراطي، وبنيتيها التحتية والفوقية متضررة!.. أمّا المشككون فهُم من قال فيهم المتنبي: "إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءت ظنُونه وصدّق ما يعتاده مِنْ توهّمِ وعادى محبيهِ بقول عُداتِهِ وأصبح في ليلٍ من الشكّ مُظلمِ وهنا لا يسعنا إلا أن ندين بشدة كل الذين يتهجمون على الاتحاد وعلى دوره المحوري في البلاد، ماضيا وحاضرا، ونذكّر الذين ينسبون اليه التعثّر (حتى غلاء الأسعار!) بأنّه هوالذي تجاسربإعلان الإضراب في العاصمة يوم الحسم يوم14جانفي!..!ثم احتضن الثورة.. ومن مناضليه ومن فروعه الجهوية بزغ شعارالثورة الخالد :( شغل، حرية ...كرامة وطنية )، ولذا نسأل المشككين :" هل كان منتهى غاية الثورة أنْ تظفروا بمناصب!؟؟.. وبشقق مفروشة وعمولات!؟؟ (..يا بلدنا يا آخر فتَكَات..حتقولْ الفقراء ومشاكلهم: دي مسائل عايزة التفانين، وخُذْ رأيي نحلّها ربّاني : نموّت كل الجيعانين!!..يا حلاوة الناوة كوا الناوه يا بلدنا يا آخرفتَكات!..) وفي تقديري الشخصي ، مبادرة الإتحاد ، رغم أهميتها القصوى، ليست سوى الحد الأدنى الضروري"SMIC"، فهي لم تدعوالى إنهاء الشرعية الانتخابية والدخول في شرعية وفاقية موسعة (سواء عبر استفتاء أو حتى بتنازل تطوّعي رفقا بالبلاد. انظرالمقال :"تحسبال23أكتوبر"، أو مبادرة الوزيرالأسبق منصورمعلى)..فالبلاد في وضعها الراهن كمريضٍ في الإنعاش، لا يحتاج شخصا قويا يحمله مفردا، وإنما تعاونا جماعيا بالرفق والوفاق..وكل حزب، أو حتى جبهة حزبية، يعتقد أنه قادرعلى تلبية الطلبات والسيطرة على الإنفلاتات هو جِدّ واهم ،لأنه سيَسقط من "ظَهر الثورالهائج" كما سقط من سبق.. وهكذاpar récurrence " " يتواصل تحطيم البلاد.. ولذا ندعوإلى تجميد الانتخابات التي شرعوا في شحذ سكاكينها دون أنْ يدركوا أنها لذبح تونس المثخنة بجراح أكتوبر 2011 ! إننا الآن في حاجة ملحة الى"هدنة توافقية" قد تستمر حتى لسنتين، ريثما تهدأ التوترات والتشنجات العدائية ، وريثما نهتدي بالحوارالى منهج أصيل غيرمسقَط ، يناسب الوضع ،فبالحوار تنبثق الأنوار.. أما مبررات المقاطعة فكلها واهية، ومنها ذريعة : تواجد"التجمعيين؛ "فالتجمعيون موجودون في الترويكا نفسها!!...ومن ناحية ثانية إذا كان الشعب مغفّلا لا يميّز بين الغث والسمين، فهذا يعني أن نتائج انتخابات أكتوبر قرّرها المغفَّلون الذين أوصلوهم الى المناصب ! ختاما نؤكد أنه ما لم يُؤخذ بمبادرة الاتحاد فإنّ الممسكين بالسلطة في غفلة معرضون، وينطبق عليهم ما كتَب عبد الله بن المقفع عن رجل هرب من فيل هائج وتحصّن بجبّ ارتمى فيه ، ومن "حسن حظه" علقت ثيابه بعود فلم يسقط في القاع الذي به تنّين(بصيامه!)،وبينما هو معلّقٌ أبصر بجانبه خليّة نحل بها عسل،(ولم يتنبه لجرذ كان يقرض العود !) فشغله العسل عن إدراك وضعه "الانتقالي المؤقت ".