بقلم: لمياء ناجي - أصدرت رئاسة المحكمة الإداريّة بتاريخ 18 أكتوبر2012 قرارا يقضي بتوقيف تنفيذ مجموعة من القرارات الصادرة عن رئيس المجلس الوطني التأسيسي تضبط مقدارالمنح والامتيازات المخولة لأربعة أصناف من أعضاء المجلس. وجاء قرارالمحكمة على إثر المطلب المقدّم من الأستاذ ناجي البكوش بتاريخ 16 أوت 2012. وقد استند هذا المطلب على جملة من المطاعن منها : - خرق القرار لقواعد الاختصاص إذ أنّ ضبط مقدار المنح المسندة لأعضاء المجلس هي اختصاص أصيل للمجلس الوطني التأسيسي حسب مقتضيات الفصل 6 من القانون التأسيسي المؤرخ في 16 ديسمبر2011 - خرق مبدإ المساواة والشطط في إسناد المنح. واستند العارض لطلب وقف تنفيذ القرار إلى أنّ تنفيذه سيؤدّي إلى أضرار للماليّة العموميّة لا يمكن تداركها وإلى أنّ صرف المنح في هذا الظرف الدقيق في البلاد سينال من ثقة العموم في الدولة ومؤسساتها ويزيد من تعقيد المناخ الاجتماعي والسياسي نحن اليوم في غنى عنه. صدر هذا القرار بعد الاطلاع على تقرير وزير الماليّة الذي أكّد على أنّه لم تتمّ استشارة مصالح الوزارة حول المنح المسندة لنواب المجلس الوطني التأسيسي عند اتخاذ القرار موضوع مطلب توقيف التنفيذ وبعد الاطلاع على ردّ رئيس المجلس الوطني التأسيسي الذي أنكر على المدعي توفر شرط الصفة والمصلحة وتمسّك بنظريّة أعمال السيادة وهي نظريّة ظهرت في فرنسا في فترة سادت فيها "مقتضيات الدولة" لتحصين قلة قليلة من القرارات التي تصدرعن السلطات العليا تجاه رقابة القاضي، ثم تقلص مجالها لأنها لا تتماشى مع مبادئ دولة الحق والقانون التي تسعى كل الدول الديمقراطيّة إلى تكريسها. إذن. أثبتت المحكمة الإداريّة استقلاليتها وحيادها وأكدت مرّة أخرى ما أقرّته في قرار ( Pierre Falcon)بتاريخ14 افريل 1981 أن " القضاء هو حامي الحقوق والحريات والحريص على استمراريّة الدولة ". هذا القرار وعلى أهميته الكبرى فان نجاعته تبقى مرتبطة بتنفيذه من قبل السلطة المصدرة للقرار. فهل سيحترم رئيس المجلس الوطني التأسيسي الذي اتخذ هذا القرار بوصفه سلطة إدارية، حجيّة الأمرالمقضي به؟ وهل سيتقيد فعليا بمبادئ دولة القانون التي من أوكد مقتضياتها حسب المحكمة الإداريّة " وجود قضاء مستقل... أحكامه نافذة وفاعلة "؟ من الناحية القانونية لا يمكن لرئيس المجلس الوطني التأسيسي أن يتنصل من واجب تنفيذ قرارالمحكمة الإداريّة وذلك لعدّة أسباب: 1 - تنفيذ الأحكام القضائيّة من قبل السلط العامة هو واجب دستوري ملازم لمبدإ الفصل بين السلط أساس كلّ دستورديمقراطي وهذا ما أكده فقه القضاء الدستوري المقارن وهو أيضا واجب أقرّته عديد المعاهدات الدوليّة ومنها العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأمريكيّة لحقوق الإنسان. 2 - رئيس المجلس الوطني التأسيسي هو رئيس السلطة التأسيسية التي تتولى حاليا وضع دستور يقطع قطعا نهائيّا مع نظام لا يحترم المؤسسات ولا يحترم القضاء، دستور يؤسس لدولة الحق والقانون؛ فمن أوكد الواجبات أن ينتهج رئيس المجلس التأسيسي سلوك القدوة والامتثال لقرار قضائي ليؤكد على أنّ المجلس التأسيسي هو أوّل من يطبّق القانون ويحترم المؤسسات ويعترف بحق المواطن في مراقبة الدولة ممّا سيؤدّي إلى تشييد علاقة جديدة بين المواطن ومؤسسات الدولة تقوم على الثقة وعلى احترام القانون من قبل الحاكم والمحكوم. زد على ذلك أن الفصل 114 من مسودة الدستور ينص على أن "عدم تنفيذ الأحكام القضائية من الجهات المختصة بدون موجب قانوني يعد جريمة لا تسقط بالتقادم"، فمع تحفظنا على احتواء نص الدستور لأحكام جزائية زجرية لا تتماشى مع فلسفة الدستورلا نتوقع تنصيص المؤسسين على مبدإ لا يؤمنون به ولا يعملون على تنفيذه. 3- لا يمكن أن يرفض رئيس المجلس الوطني التأسيسي تنفيذ حكم قضائي وهو إلى جانب انه رئيس أول سلطة شرعية في الدولة إثر ثورة الحرية والكرامة والمساواة هو عضو في "الاشتراكيّة الدوليّة" التي تقوم على الوسطيّة والاعتدال والانفتاح على القيم الكونيّة لحقوق الإنسان والديمقراطيّة والتقيد بالقانون. إذن. نأمل أن يمتثل رئيس المجلس الوطني التأسيسي لقرار المحكمة الإداريّة الذي سيكون انتصارا للقانون والمؤسسات وبرهانا على أنّ أعضاء المجلس الوطني التأسيسي ورئيسه يضعون النصوص لاحترامها وتطبيقها وأنهم واعون ومستبطنون لكل القيم التي سيحتويها الدستور كسيادة الشعب والمساواة والعدل ومبادئ دولة القانون وأولها الصدق والشفافيّة. فلا مجال اليوم "لأعمال السيادة" بل لدولة الحق والقانون. كما نأمل أن لا يلتجىء رئيس المجلس إلى تقنية "التصحيح التشريعي" لتجاوز قرار المحكمة الإدارية وهي تقنية مخالفة لمبدإ الفصل بين السلط ولمبدإ "الأمن القانوني". ويجدر التذكير انه سبق لمجلس النواب في عهد الزعيم بورقيبة أن رفض اللجوء إلى التسوية التشريعية اللاحقة لقرارات ألغتها المحكمة الإدارية وننتظرأن يعرض مشروع قانون على المجلس الوطني التأسيسي يتعلق بمنحة النواب تراعى فيه الوضعية الصعبة التي تمر بها المالية العمومية والتناسب بين المنحة وأرفع الأجور في وظائف الدولة تكريسا لأبسط مقوّمات النزاهة والشفافيّة واحتراما لذكاء التونسيين واعترافا لهم بحقهم في معرفة مآل الضرائب التي يدفعونها. وأحسن ما أنهي به عبارة لعمربن الخطاب : «إنّه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له".