عذرا غزة، فقد نفدت الكلمات وبحت الحناجر وتسمّرت العدسات... عذرا غزة، فقد علمتنا دماء أطفالك التي تدون تاريخنا أننا خارج التاريخ وأبعد ما نكون عن مرتبة الشعوب الحية... عذرا غزة، فقد باتت كل لغات العالم عاجزة عن نقل الجريمة كعجز وفودنا الرسمية في "حجّها" اليومي إلى القطاع المنكوب أن تحمل لأهله غير تصريحات متداولة وأخرى مستهلكة وصور للذكرى تشهد على خيبتنا أكثر مما تشهد على أي دور فعلي في مواجهة جريمة الابادة المفتوحة... غزة بالأمس قدمت من الشهداء ما قدمته طوال الأيام الخمسة الأولى للعدوان، وسجلت من الخراب والدمار ما حوّلها إلى هيروشيما ثانية مع اختلاف مهم وهو أنه عندما وقعت كارثة هيروشيما انتبه العالم إلى ما يمكن أن يعترض كل الشعوب بسبب أسلحة الدمار الجديدة، ولكن غزة وفي مشهد متكرر على وقع "الرصاص المصبوب" تتحول إلى مختبر يومي لترسانة الأسلحة الجديدة التي تتزود بها إسرائيل من كل الحلفاء الذين يصرون على ضمان تفوّقها العسكري في المنطقة مهما كان الثمن، ويحمّلون صواريخ "حماس" المسؤولية الأولى عن الحرب الدائرة في القطاع... موقف ليس بالجديد حتما، فطوال عقود طويلة من الاحتلال وكل التبريرات والأعذار مقبولة لتوفير الحصانة للمحتل... عذرا غزة، فجثث أطفالك المحترقة اليوم والتي تفتح شهية المجرم على المزيد من جرائم اغتيال الطفولة البرئية، باتت لا تحرج دعاة الحرية والديموقراطية في العالم الحر، ولا تستنفر المؤسّسات الدولية والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، هذا الهيكل الأممي الذي سجّل في أروقته ولادة الكيان الاسرائيلي. ومع ذلك، يبقى الأكيد أن نفس تلك الجثث المكدّسة التي تهرب منها الأنظار ويرفض المحللون التوقف عندها لبشاعتها، إنما تؤكد للعالم أنهم هم الكبار وأننا الاقزام، بل إنهم هم من يصنع التاريخ ويسجّل للضمير الانساني المفقود مجدّدا فصلا آخر من فصول الملحمة النضالية الفلسطينية والعدالة الدولية المغتصبة في المؤسسات الدولية... لقد حرص قادة إسرائيل المتعاقبون على محاكمة ومساءلة كل من يشكك في المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، ونجح صناع القرار في اسرائيل في تطويع المجتمع الدولي الذي رضخ للابتزاز الاسرائيلي للتخلص من وقع عقدة الذنب التي ظلت تلاحقه وتغافل بذلك عن كل الذنوب التي اقترفتها اسرائيل التي اتخذت من ورقة الضحية مظلة لتتحول الى أكبر قوة احتلال، وأكبر خطر نووي في المنطقة وفي العالم... دماء غزة تكتب اليوم صفحة من تاريخ قاتم لن تتهاون الاجيال القادمة في محاكمتنا عنه ومحاسبة المهرولين إلى بحر غزة للتطهر من كل الاخطاء والآثام التي ارتكبوها في حق الطفولة، التي تتعرض للاغتيال كل يوم، بل كل ساعة في غزة، منذ أن اختاروا سياسة النفاق على الوفاق والهروب إلى الامام وإرضاء أصحاب النفوذ والخضوع لاملاءاتهم واتفاقاتهم وشروطهم من أجل سلام وهمي، فلا هو منح الفلسطيني الأمن ولا هو أعاد الأرض المسلوبة... العدوان على غزة يدخل هذا اليوم يومه السابع على التوالي والارجح أن الساعات القادمة لن تختلف عما سبقتها... فالأكداس المكدسة من جثث الاطفال وحدها تؤشر إلى الاجتياح القادم، ولكنها تؤشر أيضا إلى المستنقع الذي ينتظر اسرائيل بعد أن تورّطت في القطاع...