بقلم: علي المقيرحي - في احدى المناسبات المتكررة التي كثيرا ما صارت هذه الأيام تجمعني ببعض الأصدقاء القادرين على الكتابة والقراءة سألني أحدهم وهوصحافي شاب بدا لي أنه يحمل شيئا من عبئ المواطنة محبة وانشغالا بحاضر ومستقبل الوطن. وأمام ما بدا من تدافع للتيارات السياسية يزعم كل منها أنه صاحب" الحل والعقد" من أزمات متتالية ته أركان المجتمع. وبعد التأمل في تلك التوجهات السياسية جميعها طلب مني الشاب رأيي في دوراليسار ومدى إمكانية تموقعه كأحد أشكال الوعي السياسي بين المواطنين التونسيين وقد انقسموا إلى فريقين سياسيين أظهرت إلى حد الآن ممارستهما السياسية عقم المساروانسداد الافاق. فهل من أمل في يسار يحقق عكس تلك الخيبات؟ وهذا جوابي لصديقي: إذا ما جانبنا التحديدات الاصطلاحية والتعريفات المعجمية لمفهوم ومعنى «اليسار» واكتفينا بانعكاساته في وعي الإنسان العربي المسلم عموما والتونسي خصوصا متجليا في تلك العلاقة التي انبنت في وعي التونسي بين أي حزب يساري والدين بحيث لا يكون اليساري يساريا إلا إذا مثلت ايديولوجيته معول هدم الإيمان وتخليص المؤمن من إيمانه وذلك بالاتكاء على الفهم الخاطئ والمخرج من سياقه المعرفي العلمي وتجلياته الأنتروبولوجية لمقولة كارل ماركس الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" وشمل هذا الفهم مفهوم الشيوعية المعادلة والحالة هذه للإلحاد ونفي وجود الإله وكل القيم الدينية التي شكلت مع الزمن شخصية الإنسان المسلم منذ قرون. وإذا كان هذا المعنى المخطط له والمراد بلوغه من قبل أعداء التقدم والتطور وقد نجحوا في ذلك بأن جعلوا المسلمين أكثر تقبلا لهذه القيم للمعنى المحرف لليسار والاشتراكية والشيوعية وتحديدا منذ 1928 بمصر تاريخ تأسيس أول حزب إسلامي للإخوان المسلمين الذين نجحوا في احتلال وعي الجماهير مع الزمن تحت عاملين أساسيين ذاتي وموضوعي. وأما الذاتي فقد سهل لهم مهمتهم التأسيسية تلك الوعي الساذج والعامي جدا للجماهير المقهورة اجتماعيا بحكم الاستعمار بكل أشكال جرائمه المتعددة. وثانيهما مساندة الغرب الرأسمالي لعملية التأسيس لتلك الأحزاب الأكثرعداوة وشراسة لكل ما هوآت من المعسكر الاشتراكي متمثلا في الاتحاد السوفياتي آنذاك مما جعل التصالح مع المستعمر والتعايش معه أيسر من تقبل أية فكرة قادمة من ذاك المعسكر الاشتراكي للمنطقة العربية وتونس جزء منها. ولكن إذا كانت تلك هي الأسباب الموضوعية التي جعلت صوت اليساريين يخفت في منطقتنا فإن ذلك لا يعفي مناضلي اليسار من القصور والفشل الداخلي لليسارنفسه إذ كان لقياداته ضلع كبير في أشكال السقوط المتتالية منها عدم الفهم للأسس المعرفية والعلمية الأكاديمية التي انبثقت منها فكرة اليسار كتنظيم سياسي؛ هذا من جهة ومن جهة ثانية اكتفاء مناضلي اليسار بالنشاط النخبوي الذي لم يتجاوزبعض أشكال من التنظير المعادي للسلط الرسمية ذات القوى الخارقة والمطلقة في تعذيب معارضيها من اليساريين، عذابات كان يسهل على مرتكبيها إخفاءها أمام الرأي العام الوطني والدولي بوثائق "الاستقلال" التي تحولت إلى وثائق ابتزاز للشعوب، الأمر الذي خفي إلى حد كبير على مناضلي اليسار لأن وثيقة "الاستقلال" لم تبق فقط كوثيقة فوق مكتب بطل الاستقلال الأوحد بل تحولت إلى داخل أدمغة عامة الناس لتشكل في وعيهم ما يمكن أن نسميه البطل الواحد الأحد وأن كل معارض له هو مختل عقليا يتوجب محاربته بتجييش الجماهير ضده وكم هي المناسبات التي استدعى فيها قادة وأبطال دول الاستقلال المدنيين شيوخ الدين وبيوت العبادة لمحاربة العدو المشترك أي اليسار. كيف تعامل اليسار مع كل ما كان يحاك ضده؟ وهل أن الوسائل العديدة التي أعدها لذلك كانت غير موفقة مما حرمه من احتلال موقع في الممارسة السياسية الفعلية بوصوله للقيادة الرسمية للدولة والمجتمع؟ وهل ثمة استعداد لدى مناضلي اليسار من إعادة قراءة مسيراتهم النضالية التي لا يشك في صدقها؟ أسئلة قد لا أكون مؤهلا للإجابة عنها فقط اكتفى بالإشارة إلى ما قامت به بعض الأحزاب اليسارية من الاكتفاء بتغيير أسمائها كليا أوجزئيا، مثل ما قام بذلك الحزب الشيوعي التونسي منذ ما يزيد عن عقدين بأن أطلق على نفسه تسمية جديدة "حركة التجديد" كما طل علينا هذه الأيام الأخيرة حزب العمال الشيوعي بحذف "الشيوعي" وثمة حزب آخر قام بحذف كلمة"يساري". قد يكون تغيير الأسماء لهذا التنظيم أو ذاك من أحزاب ومنظمات أهلية بدافع جمالي لغوي فهذا أمر مفهوم على مستوى الدلالات الشكلية أما إن كان الأمر يتعلق بمسائل مبدئية طالما قدمت كقيم إنسانية محلية وكونية فإن الأمر أو بالأحرى هذا السلوك ينم عن قصور يراد له أن يتواصل السقوط لليسار بالرغم من عودة الحنين إليه من قبل كل معذبي الأرض على حد عبارة فرانز فانو من ضحايا العولمة وتغول الليبيرالية كأسلوب في الاقتصاد العالمي من نتائجه الكارثية أن صار 1٪يملك ثروات العالم مقابل 99٪ من الفقراء على حد قول عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف ستيغليتز المتحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتابه :"ثمن اللامساواة" وأخيرا، أقول لك حضرة الصحافي المهموم بالمشهد السياسي لوطنك تونس إن اليسار ببلادنا لا يمكنه أن ينهض في الوقت القريب العاجل حتى وإن غير استراتيجياته الفكرية وأبدع شكلا جديدا من التواصل بين نخبه من المناضلين وبين الجماهير المقهورة والمستغلة بطرق تكاد تفوق أوضاع عمال الإقطاع في القرون الوسطى؛ سيما أن نفس الجماهير قد تم السطو على عقولها بأن حنط وعيها في القوالب التي أعدها أرباب العمل فحتى أشكال النضال التي يمارسها المقهورون اليوم من بني الشعب" الغلبان" قد انحرفت إلى أشكال من النضال الوهمي وما العودة إلى الدين وتأويلاته المتعددة والغريبة أحيانا لدليل على ذلك؛ وهذا ما يزيد مهمة اليسار صعوبة لا يمكن تجاوزها إلا بإعادة بناء الوعي الذي يتطلب تكوينا تربويا وبيداغوجيا قائما على العلم والمعرفة لجيلين أو ثلاثة؛ وفي انتظار ذلك ليس لليسار غير العمل والمثابرة والإيمان بأن المحطات التاريخية الهامة لا يبنيها جيل أو جيلان فقد يفنى جيل بكامله من أجل كرامة وحرية وإنسانية أجيال لاحقة. قد تقول لي يا صديقي إن هذا الكلام هو فلسفة في التاريخ ماضيا ومستقبلا ونحن بحاجة لحلول عاجلة للحظتنا الراهنة المرتبكة وخصوصا داخل عائلة اليسار. أجيبك إن مصيبتنا كتونسيين من اليمين أو من اليسار كنا,، أننا لا نولي أهمية للفلسفة عموما والفلسفة الأجتماعية خصوصا، فلسفة بما هي تأمل نظري في الواقع الذي يتم أمتحانه أو استنطاقه عبر التجربة بتوسط عمليات العمل الفكري والعضلي، عمل تحكمه علاقات إنتاج تتحقق عبرها الذات العاملة والمنتجة، ذات نراها اليوم تزداد اغترابا يوما بعد آخر عبر علاقات الإنتاج الليبيرالي المراد التحرر منه اليوم لدى البعض في بلادنا بالمزيد من الاغتراب عبر علاقات إنتاج الخلافة الإسلامية. فهل بلغك النداء يا يسار في زمن يتواصل فيه انتصار الجغرافيا على التاريخ إيذانا بتحيين تقسيم أوطاننا على مستوى الوعي والجغرافيا في آن وفي شبه غفلة من الجميع؟ مختص في الفلسفة السياسية والدراسات الاجتماعية