بقلم: منجي بن أم هنة - يتواصل الشد الجذب حول كتابة الدستور، تتفق المواقف قليلا و تتباين كثيرا، يعلو الضجيج وترتفع أصوات السادة أعضاء المجلس الوطني التأسيسي أمام شاشات التلفزات، و أمام مصادح الصحافيين، ثم يخيم السكون وتهدأ الثائرة، ويتحلق الجميع في مطعم و مقهى المجلس يستعرضون صولاتهم وجولاتهم، ويقيمون أداءهم مطمئنين إلى نصائح أو تعليمات منظوريهم من خارج أسوار المجلس، حيث قادة الأحزاب السياسية تناورو تمسك بخيوط اللعبة... بهذه الطريقة يجري تقريرمصيرالشعب وتُرسم سياسة البلاد، وهي نفس الطريقة تقريبا التي جرت بها أعمال المجلس القومي التأسيسي غداة الاستقلال، فكلنا يعلم أن الجبهة القومية المتكونة من الحزب الحرالدستوري الجديد، و الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة و التجارة، والاتحاد القومي الفلاحي، الفائزة في الانتخابات هي أسست النظام الجديد بقياد الرئيس بورقيبة، وذلك بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وتمهيد الأجواء لتحقيق مشروعه المجتمعي المبني على التخلص من نظام الحكم التقليدي والمراهنة على التحديث، والأخذ بناصية العلوم، وذلك بإرساء نظام تعليمي متطور يلبّي طموحاته و طموحات الشعب التونسي كما تصورها وناضل من أجلها. مما لا شك فيه أن الرئيس بورقيبة أقدم على اتخاذ قرارات جريئة أدت إلى تغييرات جذرية لامست جميع مجالات الحياة، ونخص بالذكر منها توحيد التعليم و تعميمه، وسن مجلة الأحوال الشخصية، والاستثمار في المجال الصحي، لكنه بالمقابل سعى إلى استبدال هوية الشعب العربية الإسلامية بهوية هجينة أطلق عليها هوية الأمة التونسية، أراد لها أن تكون قريبة من العالم الغربي، بعيدة عن العمق الحضاري والتاريخي للشعب التونسي، فكان أن اعتمد اللغة الفرنسية لتدريس العلوم وإدارة مؤسسات الدولة وغير يوم الراحة الأسبوعية من يوم الجمعة إلى يوم الأحد، وحاول أن يشرع الإفطار في رمضان بدعوى الجهاد من أجل القضاء على الفقر و التخلف، ثم وصل به المطاف إلى سن قرار يمنع ارتداء الحجاب، كما فرض رقابة صارمة على المساجد للتقليص من التوعية الدينية، وغيب بعض المؤسسات كبيت الزكاة، و وزارة الأوقاف، والكلية الزيتونة. في أثناء كل هذا تراجع الرئيس بورقيبة عن أكبر مكسب من مكاسب الاستقلال، فأصابه في مقتل، عندما تنكر إلى مبادئ الجمهورية، القائمة على الديمقراطية و التداول السلمي على السلطة، وذلك بتكريس دكتاتورية بدأت مبكرا بالتخلص من رفيق دربه في الكفاح، ثم التنكيل بمناضلين تونسيين صادقين بزنزانات "صباط الظلام"، وبلغت مداها عندما أعلن نفسه رئيسا مدى الحياة، واتخذ جهة من جهات البلاد مصدرا وحيدا يعين من رجالاتها وزراءه الأُول و كبارموظفي الدولة، مما تسبب في خلق اختلال رهيب بين الجهات، زادته استفحالا سياسات الحقبة النوفمبرية التي خلفته في الحكم بإضافة عنصرالفساد الممنهج إلى دكتاتورية الحكم الفردي الموروثة، تشابك المعولان و بدأت عملية الهدم والسقوط إلى الهاوية، فانهار المستوى التعليمي المرموق الذي دفع الشعب التونسي من أجل بلوغه أكثر من ربع ميزانيته، وجف أو كاد ما بقي من ينابيع هوية البلاد وتاريخها، وانقسمت البلاد إلى منطقة ساحلية تنعم بها الطبقة المتوسطة من السياح الأجانب، ومناطق داخلية ظلت تعاني الفقر و التهميش والبطالة. هذه ورقات من تاريخ يراه البعض بعيدا وأراه قريبا، تذروها رياح الصراعات السياسية فتبعثرها ذات اليمين و ذات الشمال، فما أشبه الليلة بالبارحة، نفس الرهانات و نفس التحديات لا زالت تنتظرالحسم... أعود لأستل ورقة وحيدة من دفاتر الدولة التونسية الحديثة لم تُثر حولها العديد من النقاشات على الرغم من أهميتها، وهي مسألة نظام التعليم وخاصة اعتماد اللغة الفرنسية التي اختارها مؤسس الدولة الحديثة لتدريس العلوم و تسييرالإدارة ، لأتساءل من خلال طرحها للنقاش بكل إلحاح عن مدى صلاحية حجة الأستاذ محمود المسعدي في مواجهة توجه أول وزيرللتربية السيد الأمين الشابي الداعي إلى تعريب التعليم، عندما واجهه بضعف الإطار التربوي وعدم توفرالعدد الكافي من المربين لتحقيق تعميم التعليم ، حيث وعد المسعدي بإدخال التعريب بصفة تدريجية خلال عشر سنوات على أقصى تقدير... ومرت السنوات العشر بل مرأكثر من نصف قرن ولم يتغير شيء، فماا زلنا إلى اليوم نتلقى تعليم العلوم باللغة الفرنسية، وفق برنامج وقع إعداده من قبل رجل من رجالات الحقبة الاستعمارية يدعى"جان دابياس"، كان يشغل مديرا للتعليم بتونس ... الحبيب بورقيبة الابن الذي كان يشغل سفيرا لتونس لدى فرنسا سنة 1958 بشر أخواله الفرنسيين بأن لا شيء سوف يتغير، فتونس ستواصل التعليم وفق المناهج الفرنسية وباللغة الفرنسية ، وهي السياسة التي ما زالت معتمدة إلى اليوم. و الآن وقد جاءت الثورة للقطع مع الماضي، ألا يحق لكل غيورعلى لغته وهويته وتاريخه أن يسأل: هل سقطت الحجج المقدمة في ذلك الوقت لاعتماد تدريس العلوم باللغة الفرنسية ؟ أم أن هناك حججا أخرى ستطرأ لتأبيد ذلك الاختيار؟ أم أن رياح الثورة المجيدة ستهب عاصفة غاضبة لتقتلع شجرة الزقوم من جذورها وتلقي بها بعيدا عن الحمى و تُعلن استكمال الاستقلال، ورحيل بقايا الاستعمار بصفة نهائية ؟ أسئلة حارقة ومصيرية أطرحها على كل مكونات الشعب التونسي ليجيب عنها من خلال تطبيق فعلي وفوري للفصل الوحيد من الدستورالمنتظرالذي وقع الاتفاق بشأنه "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها". اللغة من مقومات السيادة بإجماع كل الشرائع والقوانين ، و تهميش اللغة العربية وعدم جعلها لغة الفنون، والعلوم، و الآداب، والتخاطب، يهدم ركنا أساسيا من أركان القرار الوطني، و يجعل سيادتنا منقوصة، فالدفاع على اللغة العربية ليس أقل شأنا من الدفاع عن علم البلاد المفدى، حتى لا يهب الجميع للدفاع عنها كما وقع عند حادثة إنزال العلم بكلية منوبة،" فما ذلت لغة شعب إلا ذل"، فلا أظن شباب الثورة ورجالها و نساءها و شيوخها من أحرار هذا البلد يرضون أن يذلوا بعد أن رفعت الثورة المجيدة هاماتهم إلى عنان السماء. وفي النهاية أود أن أذكرأن المسألة لا تتعلق بالدفاع عن فكر قومي بالمعنى الإيديولوجي القائم على فكرة أن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح ، و وجوب قيام دولة عربية واحدة تضم مقدرات العرب بعضها إلى بعض، تمتد من المحيط إلى الخليج، فهذا هدف استراتيجي يتطلب الكثير من الوقت و الجهد، بل تتعلق الدعوة إلى تحقيق هدف مرحلي نستكمل من خلاله سيادة وطنية تونسية ظلت منقوصة على امتداد أكثر من نصف قرن، إذ لا يمكن التفكير في توحيد الأمة قبل إتمام مقومات سيادة كل دولة من دول الوطن العربي الكبير.