بقلم: محجوب لطفي بلهادي - خلافا لقواعد اللغة والأعراف النصّية المتعارف عليها نستهلّ المقال بعنونة مشفّرة غيرمألوفة تتضمّن علامات تعجّب واستفهام عديدة تتوسّطها نقاط مسترسلة تبحث إلى اليوم عن إجابات مقنعة تحاول الكشف عن مناطق الظل وزوايا العتمة التي سقطت فيها مسودة توطئة الدستور.. عنونة إيحائية بمفردات اللّغة قد تحفّز المصابين بأعراض قصرالنظرعلى تعديل نظاراتهم الطبية للتوقف عند حقيقة أن بلادنا تعدّ مخبرا متطورا في الإبداع و"الإنتاج الدستوري بمختلف سلالاته الأصيلة والهجينة". فمن المفارقات العجيبة الغريبة أنّه في ذات الوقت الذي لا نعثرفيه عن أيّ أثرولو يسير للكم الهائل من موروثنا الدستوري في مسودة التوطئة في بلد خطّ أوّل دستورفي العالم العربي الاسلامى وعُرف بثراء تجاربه التأسيسية الواحدة تلو الأخرى ووفرة دساتيره بأصنافها "الصغيرة" و"المطوّلة"، نسجّل وبقدرة قادر عودة الروح للفصل الأول من دستور 1959 وتنصيبه معزّزا مبجّلا على عرش فصول مشروع الدستور الجديد! وكأنّ بالعقل الباطن للعديد لحظة صياغة التوطئة في حالة تجاذب شديد ربّما يرقى عند البعض إلى درجة الفصام بين الإضمارالممنهج للقطع النهائي مع موروثنا الدستوري من جهة والإقرار المستبطن بالكفاءة والدقّة العالية لتوطئة دستور 59 من جهة ثانية.. حالة تجاذب حادة تستوجب في الحدّ الأدنى إجراء مقارنة بين النص الكامل لتوطئة 1959 ومشروع المسودة واقتراح صياغة جديدة تعمل على المراوحة بين النصين بشكل معقلن. لماذا كل هذا التركيز على التوطئة دون غيرها وما هي مشروعية مثل هذه المقارنة وحدودها؟ الإجابة المباشرة عن القسم الأول من السؤال تضمّنته وثيقة المجلس الوطني التأسيسي المتعلّقة بالمنهجية العامة المتّبعة في صياغة التوطئة والمبادئ العامة الذي ورد فيها بالخصوص "...وهى بذلك (يعنى التوطئة) تمثّل الموجّه العام الذي يوجّه كامل تلك البنود (أي بنود الدستور)، والمصدرالذي تستمدّ منه روحها العامة...وهذا الموقع الذي وضعت فيه التوطئة تصبح به ناظمة لمجمل الدستور، بحيث لا يجوز أن يردّ ما يخالفها أو يتناقض معها أو يقصر دونها "، يبدو أنّه ليس هناك أكثر من هذا الوضوح .. فالتوطئة بمنطوق الوثيقة تعدّ الموجّه والرّوح والنّاظم.. فهي بهذا المعنى "الدستور داخل الدستور" الذي سينحت المعالم النهائية لصورة الدستورالمقبل برمّته... فمشروعية الموازنة بين النصّين مستمدّة أساسا : - من الاعتراف المعلن لمختلف الفاعلين السياسيين بالأهمية المحورية للفصل الأول من دستور 59 والتنصيص عليه في مقدمة فصول مشروع الدستور المقبل ..وما أدراك ما الفصل الأول! - من طبيعة الدساتير نفسها حيث إنها تشكّل مسارا متحرّكا، تراكميا بامتياز، يخضع لمنطق الاستمرارية والتجاوز، لثنائية التواصل والتمايز بين مختلف المنظومات الدستورية المحلية والمقارنة. في حين أن حدود المقارنة تفرضها بقوة المساحة الزمنية الفاصلة بين النصّين -أكثرمن نصف قرن- وما يعنيه ذلك من هواجس مجتمعية مختلفة..فمهمّة أباء الأمس -مؤسّسي دستور 59- كانت محفوفة بالمخاطر..فالرّهان كان من الحجم الثقيل تمثّل في بناء صرح مؤسّساتي قابل للحياة لدولة ناشئة تبحث عن ذاتها الحقوقية، فنجحت في العديد من المحاور وأخفقت في العديد من الواجهات أيضا... القسم الأول: توطئة دستور 1959 1 - النصّ الكامل لتوطئة دستور 1959 : بسم الله الرحمان الرحيم نحن ممثلي الشعب المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي، نعلن، إنّ هذا الشعب الذي تخلّص من السيطرة الأجنبية بفضل تكتله العتيد وكفاحه ضد الطغيان والاستغلال والتخلف، مصمّم على توثيق عرى الوحدة القومية والتمسك بالقيم الإنسانية المشاعة بين الشعوب التي تدين بكرامة الإنسان وبالعدالة والحرية وتعمل للسلم والتقدم والتعاون الدولي الحر وعلى تعلّقه بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية وبالتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السلط ونعلن : - إنّ النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرارالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجع أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة والتعليم ، نحن ممثلي الشعب التونسي الحر صاحب السيادة نرسم على بركة الله هذا الدستور. 2- ملاحظات حول توطئة دستور 59 : البناء اللغوي والأسلوبي للنص: - عدد الفقرات : ستّة فقرات محورية - عدد الكلمات : قرابة 145 كلمة - التركيبة اللغوية لنصّ التوطئة : بناء نصّي يعتمد على الجملة المركبة الطويلة السّلسة - أسلوب الصياغة : نصّ تأسيسي مرن يعتمد بشكل منهجي على نسق نصي متدرج ومنسجم توظّف فيه بشكل ذكي عبارات للربط بين مختلف وحداته، عبارات تحمل شحنات سيكولوجية قوية محققة في ذات الوقت وحدة النص وقوته في إثارة الانتباه والتيقظ لدى السامع أوالقارئ على غرار: نعلن ..مصمم..ونعلن نصّ تأسيسي يعتمد على تكثيف مركّز للمصطلحات القانونية وتلك المستمدة من العلوم السياسية في نطاق مقاربة شاملة تتوخي الاختصار في الصياغة - البنية الدلالية للنص : اختياراسم "التوطئة" لما تحمله هذه العبارة من بعد دلالي دستوري عميق ، في تماهي واضح مع الاتجاه العام التي اتخذته أكثرالدساتير المقارنة والدستورالفرنسي على وجه الخصوص. التمهيد للتوطئة بالبسملة وختمها بعبارة على بركة الله وما تعكسه من حالة التجانس العقائدي لمختلف مكوّنات المجلس القومي التأسيسي. تدرّج دلالي متماسك للنص ينطلق من تقديم موجز لمشروعية واضعي الدستور -الفقرة الأولى-..ثم توضيح للسياق التاريخي العام للدستور-الفقرة الثانية-.. فبيان أوّلى للأسس القيمية للدستور-الفقرة الثالثة-... فتمسّكا بتعاليم الإسلام وانخراطا في الفضاء الجغراسياسي التي تنتمي إليه الدولة الناشئة -الفقرة الرابعة- ..فإفصاح جدّ مقتضب للنظام الديمقراطي المتجه نحو إرسائه -الفقرة الخامسة-.. فانتهاء بتقديم خلاصة للتوجهات المجتمعية العامة للدستور-الفقرة المحورية السادسة من التوطئة.