المشهد القادم من ولاية سليانة منذ أيام صادم كيفما قلبته، بل الحقيقة أنه لم يكن بالإمكان للوهلة الأولى تصديق تلك الصور الدموية المتواترة عما يحدث في هذا الجزء من تراب تونس لا سيما تلك التي عكست تغليب المنطق الامني واللجوء إلى العنف المفرط وما بات يعرف بالرش في مواجهة مئات، بل آلاف المتظاهرين، حتى خلنا للحظات وكأن الأمر يتعلق بممارسات الاحتلال الاسرائيلي ضد الفلسطينيين... سليانة كما دوار هيشر وقابس وسيدي بوزيد والقصرين وقفصة وسيدي الهاني وغيرها من المناطق المنسية التي لا تطلب غير حقها في الحياة والكرامة وهي مطالب مشروعة ولكنها لا تزال في انتظار الإرادة السياسية المترددة... حتى مساء أمس، تجاوز عدد المصابين في الاشتباكات الدموية في سليانة المائتين، والرقم يبقى مرشحا للارتفاع في ظل غياب أي مبادرة يمكن أن تساعد على تجاوز حالة الاحتقان الشعبي المتفاقم والتي باتت تنذر بالامتداد إلى المناطق المجاورة بكل ما يمكن أن يعنيه ذلك من انعكاسات على كل المستويات، في ظل الحقيقة المغيبة وسيل الاتهامات المتبادلة بين مسؤولي الحكومة من جهة، والأهالي والأطراف النقابية من الجهة الأخرى... لن نتوقف عند تصريحات الوالي المنصب بشأن الحجارة المستوردة التي استعملت في المظاهرات، ولا عند تصريحات رئيس الحكومة بأن "ديغاج" انتهت، ولا أيضا عند تصريحات وزير الداخلية بشأن"الرش" الذي يوجع ولا يضر، فحرية الرأي والتعبير هي المكسب الاهم للثورة ولا يمكن لتونسي أن يقبل بمصادرتها، ولكن في المقابل فإن الدم التونسي خط أحمر. إن نظرة تأمل في أحداث سليانة وحتى في غيرها من المناطق من شأنها أن تتجه للطبقة السياسية في بلادنا، حكومة ومعارضة، لتطالب الجميع بالتوقف عن المكابرة والعناد والعنجهية، ولتقول أنه آن الأوان لإنهاء الحرب الكلامية المستعرة بين الخصوم السياسيين المتناحرين في كل المنابر لأنها لم تزد التونسي إلا إحساسا بخيبة الأمل و"الحُقرة"، ولكن أيضا بانعدام الثقة في النخبة التي تتصدر المشهد. وفي انتظار تحقيق جدي بشأن ما يحدث في سليانة من تجاوزات في حق مواطنيها واستهداف المتظاهرين في وجوههم وأبصارهم عبر استعمال أسلحة ممنوعة وكذلك بشأن "الهدية القطرية الملغومة"، فقد بات لزاما على الحكومة المؤقتة أن تتوقف عن توخي سياسة الهروب إلى الامام والبحث عن شماعة تجنبها المساءلة والمحاسبة، وأن تدرك أن ما حدث ويحدث في سليانة رسالة لا تخلو من تحذيرات جدية بشأن المستقبل وهي تحذيرات تدق ناقوس الخطر وتستوجب بدل الكلام الكثير القليل من الجهد والعمل. وربما بات لزاما أيضا على المسؤولين في حكومة الثورة أن يتواضعوا ويتخلوا عن الكثير من المكابرة التي تطغى على مواقفهم وأن يقبلوا بمراجعة مواقفهم لصالح البلاد وأن يقللوا، حتى لا نقول يتجنبوا، تذكيرالرأي العام في كل المناسبات بأن مسألة التعيينات على رأس المؤسسات العمومية والاعلامية والبلديات وغيرها هي من حق الحزب الفائز في الانتخابات تماما كما هو الحال بالنسبة للرئيس الامريكي باراك أوباما أو الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. فمثل هذه المقارنة لا تجوز وهي على درجة من السذاجة لعدة اعتبارات لعل أهمها أن في فرنسا وأمريكا -وهما المثالان اللذان يحلو للمسؤولين في بلادنا اعتمادهما- مؤسسات وتجربة ديموقراطية عريقة تغلب ومنذ عقود عقلية التداول على السلطة وتكرس ثقافة القبول بالآخر ولكننا في المقابل لا نزال نقطع أول خطواتنا على طريق الديموقراطية الناشئة ولاشيء في الافق يضمن استمرارها...