هل هي ردّة فعل على انتظارات طالت بعد وعود كثيرة قبل وبعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 أم هي تلبية لدعوة أحد الاحزاب لتعفين الاجواء وتعميق التوتر والدفع الى مواجهات حادّة لافشال سياسة الحكومة؟. لقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات في مدينة سليانة على امتداد الايام القليلة الماضية لتصل الى حد التصادم بين المواطنين وجهاز الامن.. وسقوط جرحى من الجانبين واستعمال ذخيرة محرّمة دوليا لأول مرة بعد الثورة ضد شباب رفضوا منذ سنة 2006 سياسة التهميش والعزلة والإهمال وكانت احتجاجاتهم آنذاك عامل تراكم في الوعي الجماعي ضد سياسة المخلوع غذتها تحركات الحوض المنجمي بعد أقل من سنتين وظلت تتفاعل في أعماق المحرومين والمهمشين في كامل انحاء البلاد الى حين اندلاع شرارة الرفض الحاسم ذات يوم من شهر ديسمبر 2010. إن من يختزل الاحداث الدامية في سليانة وبعض المعتمديات المجاورة.. في حادث عرضي بين موظفين يعملان بمقر الولاية يحاول إعفاء مداركه من تشخيص حقيقي وموضوعي لواقع تنموي متردّ طال عقودا كما يسعى لتبرير تلدّده في الاقدام على انجاز ولو جزء من الوعود الانتخابية التي وعد بها الشعب سواء بسبب عجز ذاتي أو بسبب تقدير خاطئ. لقد عانت المناطق الداخلية بالخصوص من أسباب التخلف والإهمال الشيء الكثير... في وقت يساهم أبناؤها بجهودهم في مختلف القطاعات الإنتاجية في تغذية موارد الميزانية وتنشيط دواليب الاقتصاد الوطني، ويقدر الجميع المكانة المحورية الفلاحية باعتبارها الميزة الاقتصادية الأساسية لمناطق الشمال والوسط الغربيين في تطوير النشاط التنموي وتعزيز موارد الدولة وتحفيز الاستثمار. وهذا الاختلال بين حجم العطاء ومستوى «المكافأة» تعمّق على مدى أكثر من خمسين سنة وتعمّقت معه الهوّة بين واقع معيشي صعب... وطموحات مشروعة في العيش الكريم. إن حكومة الجبالي المنتخبة خصّصت اعتمادات مالية ضخمة للنهوض بهذه المناطق المهمشة وبوّبت الأولويات التنموية وشجعت على مزيد الاقبال على الاستثمار في اعماق البلاد ولكن عديد الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات والمطلبية أثرت بشكل مباشر على انجاز ولو القليل من البرامج التنموية المرصودة لهذه الجهات وأربكت الى حد ما القدرة على الفعل. ولكن، هذه الحقيقة الموضوعية في ظل ثورة مازالت تداعياتها تتفاعل لا تحجب مدى هزال الأداء الحكومي في التعاطي مع هذه التحديات ومدى التباطؤ في الاقدام على انجاز ما يمكن انجازه من مشاريع قد تمهد للتهدئة واعادة الثقة الى النفوس. وفي هذا السياق تتنزل كلمة رئيس الجمهوية الموجهة الى الشعب مساء اول امس عندما أكد أن مصلحة تونس اليوم تقتضي حكومة مصغرة... حكومة كفاءات تسهر بجديّة على الجوانب التنموية والقطع مع التسميات على قاعدة المحاصصة الحزبية... معترفا بأن الحكومة لم ترتق الى مستوى الطلبات المشروعة للمجتمع... و»الخيار» مطروح بين مواصلة هذه السياسة التي قد تؤدي الى الهلاك أو البحث عن الحلول الجوهرية لمشاكل تنموية عميقة قد تمهّد للخلاص. كما حمّل المجلس الوطني التأسيسي مسؤولية اهدار الوقت في نقاشات طويلة لا طائل من ورائها، محملا جميع الاطراف من مجتمع مدني ومعارضة والمنظمة الشغيلة ومنظمة الاعراف والمواطن مسؤولية الوضع في المستقبل، مقترحا خارطة طريق انتخابية قد تعيد الأمل رغم الضبابية الطاغية على المشهد السياسي ومحاولات التجييش والتحريض من هنا وهناك. إن الدخول في اصلاحات جذرية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يتطلب قدرا كبيرا من الارادة والشجاعة الادبية ومبدإ الحسم بدل التلكؤ والارتباك... كما يتطلب القدرة على الاقناع بالحجّة.. والحجّة تختزل في الانجاز بدل الخطابات واستعراض البرامج على الورق وترديد الارقام على مسامع المواطنين... وحتى لا تتآكل مصداقية الحكومة... وحتى تحافظ على هيبتها فإن الأمر يستدعي في ظل هذا الظرف القطع نهائيا مع التعيينات الفوقية في مؤسسات الدولة وفسح المجال للكفاءات بعيدا عن المحاصصة الحزبية والولاءات... كما أن هيبة الدولة لا تستدعي فرض مواقف تتعارض كليا مع رغبات المجتمع بل فتح باب الحوار والانصات الى مشاغل المواطن لأنه هو صاحب الشرعية في النهاية.. هو من يمارس إرادته في الاختيار.. اختيار من يَسُوسُه لا من يفرض إرادته عليه.