الندوة الفكرية التي نظمها اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين يوم السبت الماضي ببيت الحكمة بقرطاج بالعاصمة أي في اليوم الموالي لافتتاح الدورة الجديدة للمعرض السنوي للإتحاد كانت بالخصوص محاولة لإرساء تقاليد في مجال تنظيم اللقاءات الفكرية حول الفنون التشكيلية , لقاءات تكرس العادة لدى أهل الذكر للإجتماع لطرح الإشكاليات التي تهم القطاع قبل أن يقع المرور في الدورات القادمة إلى أشياء أخرى تهم التنظيم واختيار المادة المعروضة للمناقشة. ذلك الإنطباع الذي يتكون للمتابع بعد الإستماع لأغلب المحاضرات حيث طغى فيها جانب إلقاء درس بالشكل الأكاديمي على ما يحتاجه جمهور الحضور في الندوات الفكرية من طرح للإشكاليات وتقديم مادة تكون منطلقا للتفكير وللنقاش فسره جل الحضور من الفنانين التشكيليين الذي توجهنا إليهم بالسؤال حول ما حصل من فائدة من الندوة المذكورة بأننا إزاء تجربة أولى. وكانت قد تابعت مجموعة من الفنانين التشكيليين ومن النقاد وطلبة الفنون الجميلة هذا اللقاء الفكري دون أن يبلغ عدد الحضور نسبة عالية السبب يعود وكما هو الشأن بالنسبة للفائدة العلمية إلى حداثة التجربة. دار اللقاء حول موضوع الأنا والآخر والفنون التشكيلية وتواصل كامل صباح يوم السبت الماضي. وقد فسر رئيس الإتحاد الأستاذ منجي معتوق لدى افتتاحه للملتقى في كلمة خاطفة أن الأنا والآخر يهمنا في هذه الظروف بالذات التي تأخذ فيها الفنون التشكيلية مجرى جديدا يهم التقنيات والموضوع. وقد انقسم الملتقى إلى جلستين علميتين ترأس الأولى الكاتب والناشر عبد الواحد براهم والثانية الرئيس السابق للإتحاد والفنان التشكيلي والجامعي سامي بن عامر. فاتحة المحاضرات كانت بإمضاء الأستاذ حمادي الدليمي الذي لاحظنا مدى التبجيل الذي يحظى به لدى الحضور من الفنانين والجامعيين حتى أنه غالبا ما يستنجد المتدخل بشيء مما قاله رغم أنه ترك القاعة بمجرد إلقاء محاضرته بسبب ارتباطاته بالجامعة. وقد عمد المحاضر إلى تقديم مفهوم الآخر انطلاقا من التعريف الفلسفي للفن معتمدا بالخصوص على التعريف الذي قدمه كانط وخاصة فكرة الإتفاق الجماعي حول مفهوم الفن. وقد توقف المحاضر بالخصوص عند قدرة الفن على خلق مجموعة بشرية يوحد بينها الفن بما يخلقه فيها من إحساس بعيدا بالمتعة بعيدا عن كل فائدة مادية أو مصلحة ما على خلاف العلوم مثلا التي تسعى لأن تكون لها وظيفة محددة فإن الفن والفن التشكيلي بالذات متحرر من كل هذه القيود وهو بالتالي فإن الفن اجتماعي بالأساس ومن خلاله تتجلى العلاقة مع الآخر لأن الفن هو من حيث الجوهر اعتراف بالآخر. عندما نزهو بأننا بشر دفع المفهوم الذي اقترحه الأستاذ الدليمي الأستاذ سامي بن عامر الذي علمنا أنه ارتقى إلى رتبة أعلى بالجامعة ( بروفيسور ) دفعه إلى التساؤل إن كان العمل الفني, اللوحة مثلا يمكن أن يتفاعل معها الكل في أية منطقة من الأرض ومهما كانت الثقافة التي ينتمون إليها. غير بعيد عن التعريفات الفلسفية للآخر والفن اعتبرت مهندسة الديكور والباحثة بوكالة إحياء التراث السيدة ليلى الدعمي أن الفنان وأثناء عملية الخلق ينتقل من حالة إلى أخرى، من الأنسنة (الإنسان) إلى الألوهية من خلال تغييب الأنا الإجتماعية , مشيرة أيضا إلى أنه من بين خصائص المبدع الفنان أنه عادة ما يتسم بتعدد الشخصية وهو يعيش حلمه في الواقع. وبما أن الفنان المبدع حسب المحاضرة يعبر عن ذاته فإن التواصل مع الذات يفضي إلى التواصل مع الآخر. انطلق الأستاذ معز سفطة أستاذ تاريخ الفن والجماليات بكلية الفنون الجميلة بالعاصمة في محاضرته, انطلق من رصد الواقع في العالم الذي تتسم فيه العلاقات الدولية بالتصادم، تصادم القوى من أجل الهيمنة على الآخر. وقد استعرض المحاضر مختلف أشكال التعامل مع الآخر التي تهدد مستقبل البشرية فأكد على شكلين اثنين هما الإنعزال والرغبة في الهيمنة .فالموقف الأول يجعل الإنسان منغلقا على نفسه غير آبه بما يحدث من حوله أما الموقف الثاني فهو وراء الصراعات والحروب. وقد انتهى إلى أن الفنان يجب أن يرفض هذا وذاك وأن يشارك في لعبة التعامل مع الآخر والتحاور معه , بل إن هذا ينبغي حسب رأيه أن يكون موقف البشر جميعهم وكان قد ذكر في البداية بمقولة لأرتير رامبو "الأنا هو الآخر" متبنيا هذا الموقف الذي نرى فيه ذاتنا من خلال الآخر. الكاتب والناشر عبد الواحد ابراهم لا يرى أهمية للفن بعيدا عن المتلقي فالعملية الإبداعية بشكل عام لا تتم بدون المتلقي. أبرز ذلك بعد أن ركز على دور المبدع في المجتمع. فالإنسان اليوم حسب قوله ليس في حاجة فقط إلى ما يمتع وإلى ما ينمي الذوق وإنما إلى ذلك الفن الذي يجعلنا حسب تعبيره نشعر بالزهو بصفتنا بشرا أو كما قال بودلير ذلك الفن الذي ينمي فينا الشعور بالعظمة. أما عمر الغدامسي وهو الصحفي والناقد الذي يشرف على ملحق خاص بالفنون التشكيلية تصدره جريدة الصحافة اليومية فقدم صورة عن المؤسسات والمراكز التي تنشط في مجال تقديم الدعم لمجال الفنون التشكيلية سواء للنشر في ذلك المجال أو من أجل المساعدة في تنظيم المعارض في عدد من الدول التي لا تعتبر فيها حركة الفن التشكيلي خاصة الفن التشكيلي المعاصر نشيطة جدا وقدم صورة واضحة عن أنشطتها واستعرض المجلات والمعارض واللقاءات التي تنظم في عدد من هذه البلدان (تركيا, إيران الهند وغيرها) ببادرة منها أو بمساعدة منها وتوقف عند مسألة الحفاظ على الهوية في زمن لم تجعل فيها وسائل الإتصال الجماهيرية وما حققته من تطور تكنولوجي كبير عملية التواصل بين الثقافات أكثر سهولة حسب قوله. مدرسة تونس ونقاط الاستفهام المحاضرة الأخيرة التي كانت بامضاء فاتح بن عامر والتي اهتمت بتجربة مدرسة تونس للرسم تبعتها عدة ردود أفعال. فقد انحصر النقاش تقريبا حول هذه المداخلة وقد استغل المتدخلون كلمة فاتح بن عامر ليدعوا بإلحاح إلى فتح ملف مدرسة تونس للرسم. وقام فاتح بن عامر في محاضرته باستعراض سريع لتاريخ الفنون التشكيلية في تونس الذي انطلق مع الإستعمار الفرنسي. كانت البداية حسب تأكيده ذات نفس استعماري أما الإستشراق فلم يكن يحمل إيجابيات تذكر حتى ولو احتوت أعمال المستشرقين على مشاعر إيجابية فكان الهدف من وراء ذلك اثنين زرع الفن ببلادنا وتصدير الصورة الإستعمارية. بعد العشريات الثلاث الأولى للقرن الماضي حلت مدرسة تونس للرسم التي سعت إلى صياغة صورة فنية تونسية برهن فيها أصحابها عن وطنية مؤكدة لكنها بقيت مرتبطة بماضي وثقافة أعضائها وحشرت التونسي في صورة قديمة وتجاهلت تونس المستقلة, تونس الحديثة حسب تأكيده. ونبه المحاضر من جهة أخرى إلى أن المؤسسات المتخصصة على غرار كلية الفنون الجميلة وكذلك اتحاد الفنانين التشكيليين لم يقوموا بالأدوار المطلوبة منهم وتواصل بالتالي حسب رأيه غياب الاستراتيجيات والمشروع الثقافي المتكامل الذي يهتم بالصورة المنتجة تشكيليا. مع العلم أن المعرض السنوي لإتحاد الفنانين التشكيليين الذي يحتفل هذا العام بمرور 40 عام على تأسيسه يتواصل مدة خمسة أسابيع ويتوج الفائزين بجوائز تمنحها وزارة الثقافة والمحافظة على التراث وبلدية تونس. وتتوزع الأعمال المعروضة على فضاء دار الفنون بالبلفيدير بالعاصمة وقصر خير الدين بالمدينة العتيقة.