بقلم : محجوب لطفي بلهادي 1/ - بداية الأحجية... بالأمس كنّا نغطّ في نوم عميق على وقع ترنيمات خفيفة لإحدى قصص "كان يا مكان ..في قديم الزمان..."، وعلى فكّ بعض الأحجيات المثيرة.. فنندفع معها في اتّجاهات متداخلة حالمة لا تتقيّد بزمان ومكان. اليوم لا تمرّ لحظة واحدة إلاّ ونجد أنفسنا في مواجهة مباشرة لأحجية ولغز جديد لا نفقه الكثير عن خيوطه العنكبوتية ..ننام لنصحو بأعين مشرّعة متوجّسة ومنهكة تنقلب فيها الترنيمات والحكايات إلى كوابيس وأضغاث أحلام تُطلق فيها الفتاوى وتٌرشّ فيها العطور على نخب الفصل الأوّل في موكب مهيب يحضره الجميع إلا مٌوثّق العقود (دستور 59)! فكان يا مكان في نفس الزمان.. وحاضر العصر والأوان ...قصّة "وفاة" فاقت حدود الخيال..جرت أحداثها دون حضور أو مراسم حداد.. بطلها "مخلوق دستوري" وُئَد حيّا وبقدرة قادر بعث أحد فصوله من رماد..فكانت الأحجية تبحث عمّا جرى وما يجري من توظيف وارتداد... 2/ مفترق الأحجية... "تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها". بمنطق الأحجيات يتّسع الفصل الأول لأكثر من لغز وأحجية، إن تطلّعت إليه يبدو أنّه سهل الاختراق وإن حاولت النفاذ داخله يتمنّع بشدة ليُفصح عن تركيبة لفظية وإيحائية في غاية التعقيد برافعة بنيوية حاضنة لأكثرمن جملة إسمية وصفة نعتية تتصدّره جملة محورية تُشكّل إحدى المداخل الأساسية لفكّ الأحجية تتكوّن من مبتدأ - تونس- وخبر-دولة- ففي المنعطف الأوّل من المفترق تتكشّف لنا القراءة الأوسع تداول والأشدّ إغراء بين مختلف أطياف الطبقة السياسية لاستبطانها لقدرات عالية تسمح للتوظيف والاستنساخ النمطي.. قراءة تتفاعل مع الحقل الدّلالي للفصل الأول على أسس معيارية لغوية صارمة تجاوزتها الدراسات الألسنية الحديثة بسنوات ضوئية، أفرزت ارتهان الفصل الأول ودستور 59 بالكامل لإحدى قواعد الإحالة النحوية من خلال طرح سؤال "شديد التّميز" على طريقة "سيبويه" : لمن تعود عبارة "الإسلام دينها" : إلى تونس أم إلى الدولة ؟ تلتها إجابات "في منتهى النبوغ والعبقرية" إختزلت البعد الدلالي للفصل الأوّل في كون : "تونس دولة، الإسلام دينها والعربية لغتها"َ !! وما زاد عن ذلك فهو من قبيل الهلوسة الحقوقية التي تعبّرعن حالة الاغتراب الفكري لواضعي دستور 59 !؟ في المحصّلة نحن في مواجهة فصل في حالة "فصام" وتشوّه خُلقى برأسين .. "انتهازي" المنطوق يتمظهر في شكل نصّيين مختلفين..نصّ في نسخته الأصلية الأصيلة أبدعت المخيّلة السياسية والقانونية لآباء دستور 59 في استنباطه ليُستخدم اليوم بميكيافلية فجّة بعد مضيّ أكثر من نصف قرن ونصّ ثان لامرىء مترسّب في اللاّوعي الجمعي المحنّط للطبقة السياسية قادر على التّحايل على الفصل الأول في المنظور المتوسّط - بالتحديد عندما يستقرّ الوضع السياسي بشكل نهائي لصالح هذا الطرف أو ذاك وتحويله إلى مادة دستورية سخيّة وطيّعة للتلاعب الإيديولوجي في زمن التوظيف وبنخب سياسوية لا تجيد إلاّ لعبة التوظيف. ففي المنعطف الآخر من المفترق -المنسي تماما- نتلمّس قراءة مختلفة للفصل الأوّل وفق منظور متعدّد الأبعاد يتداخل القانوني بالألسني ..والسيميائي بالنفسي ضمن مقاربة تحاول اختراق "جدار الصوت" للمجال النحوي المعياري المبسّط للفصل الأول من خلال التعامل مع النصّ كدارة كهربائية مغلقة يتفاعل داخلها كمّ من الالكترونات اللفظية - مفردات وعبارات وجمل- في رحلة مكوكية لا تتوقف حول النواة -دستور 59-. فالبحث عن معنى الفصل الأول ومقاصد واضعيه لا يمكن تحقيقه فقط من خلال توخّي مقاربة انتقائية للنص أوالاقتصار على تطبيق مجموعة من القواعد النحوية التي تتخفّى خلف حقولها المفخخة العديد من الحركات الأصولية والحداثوية بل بالنفاذ داخل النظام ذاته للكشف عن مختلف أنساقه في علاقة مباشرة بمدونة دستور59. فالجزم أو مجرّد الإيحاء بأن للكلمة قيمة بذاتها هو من باب الخداع اللغوي باعتبار أنها لن تكتسب قيمة مضافة إلا لحظة دخولها في علاقة مع غيرها من المفردات "فالنظام يقود إلى المفردة، والمفردة تقود إلى القيمة، وهكذا ترى أن المعنى يتحدّد بالحاشية التي تقع حول المفردة" مثلما ما أشار إليه مؤسس الألسنية الحديثة " فرديناند دى سوسير" في إحدى محاضراته. فتدقيق في الفصل الأول يحيلنا إلى عدد من الملاحظات المثيرة : - خلافا لما درجت عليه جميع القواعد القانونية عموما -والدستورية على وجه الخصوص- أنّها تأتي عامّة ومجرّدة فانّ الفصل الأول جاء بمفردات في غاية الدقّة والتّخصيص وبصياغات لغويّة في منتهى الوضوح تحيلنا مباشرة ودون لبس إلى أسس قيمية ومفاهيم سياسية محدّدة متّفق عليها منها اعتبار تونس ( دولة ) وما يعنيه ذلك من استيفاء لأركان الدولة من شعب وإقليم وسلطة سياسية، وتوصيفها( بالدولة الحرّة، المستقلّة وذات السّيادة )، مع تحديد لهويّتها (الإسلام دينها)( و(العربية لغتها)، ولنظامها السياسي (الجمهورية نظامها)..صياغة عبّرت عن الإرادة المعلنة والصريحة للمشرّع في بناء دولة حديثة الصرح مدنية الروح بنص واضح لا يحتاج إلى تعويذات لفكّ طلاسمه أوإلى مدارس فقهية في الشرح والتفسير. - بناء نصّي يتميّز بالتدّرج المنطقي في نحت المفاهيم وتسلسلها -في نسخته العربية والفرنسية أيضا- دون الوقوع في فخّ "التفكير بالفرنسية والكتابة بالعربية".. فتونس في بعدها الاعتباري العام تتشكّل من دولة بمؤسّساتها المختلفة ..والدولة أعلنت عن انخراطها الإرادي لنادي الدول الحرّة ..ومقتضيات الحرية تستوجب بداهة أن تكون الدولة مستقلة ذات سيادة عن السيطرة الأجنبية بهويّة ثقافية ونظام سياسي محدّدين.. فيكفى فقط أن تتغير مواقع الألفاظ حتى يتغيرالحقل الدلالي للنص برمته، فلو افترضنا أن منطوق الفصل الأول جاء على هذا النحو : "الدولة التونسية.. الإسلام دينها.. والعربية لغتها.. والجمهورية نظامها.. حرة ..مستقلة.. ذات سيادة " حتما فان القراءة ستكون مغايرة تماما. - بناء نصيّ يتحرّك وفق حدود واضحة غير قابلة للتوظيف في هذا الاتجاه أو ذاك ..فالدّارة تٌفتح -بدولة حرّة- لتٌغلق في الجانب الآخر بعبارات -الجمهورية نظامها- محدّدات بمفاتيح وبمضامين مدنية بامتياز أكسبت النص مناعة ذاتية من العواصف الثلجية والرملية القادمة من وراء البحارباعتبارأنّ -الدولة الحرّة- هي الحاضنة-الأم الطبيعية لمفاهيم المدنية المجسّمة لإرادة المجتمع في العدل والإنصاف..وأنّ النظام الجمهوري- يٌعدّ بدوره الشكل الأكثر تداولا اليوم في الترجمة العملية لمفهوم مدنية الدولة. ومن الملفت للانتباه حقا أنه حتى في صورة تغيير مسار كتابة نصّ الفصل الأول من اليسارإلى اليمين فانه يظل محافظا على نسقه الدلالي وبنفس المحددات والمفاتيح التي تضمّنتها النسخة الأصلية، فتونس تظلّ دولة "نظامها الجمهورية، لغتها العربية، دينها الإسلام، سيدة، مستقلة وحرّة" !! - مفاتيح ومحدّدات للنص في علاقات تناظر مثيرة (جديرة بالبحث من المتخصصين في علم النفس الاجتماعي) بينها وبين اللوحة الكوريغرافية التي رسمتها أيادي وحناجر حالمة بالحرية يوم 14 جانفى 2011.. خرجت لتسرد قصة شعب صمّم الإبحار على متن السفينة الشراعية البونيقية التي تتوسّط شعار الدولة بحثا عن جمهورية الحرية!! علاقات تناظرية نجد صدى لها في عدد من الحضارات كالتناظر بين الفكر السكولائي الكنسي الوسيط والعمارة القوطية أو علاقة التناظر القائمة بين الكتابة الصينية وطقوس المجتمع الصيني. - مفاتيح ومحدّدات للنص في تناغم تام مع باقي الأجزاء المؤلفة لدستور 59 -التوطئة على وجه الخصوص-.. فكانت المراوحة بين مفاهيم الحداثة والأصالة تفاعلية وايجابية دون غلوّ ساهمت إلى حدّ بعيد في تمديد العمر الافتراضي للفصل الأوّل. بالمقابل ينظرالعديد من خبراء القانون الدستوري وغيرهم لمسودة التوطئة المعلنة اليوم بكثير من الرّيبة والتحفّظ لما يشوبها من غموض وفوضى في المفاهيم وغياب كامل للمقاربة القانونية في الصياغة .. مسودّة تستوجب في المنظورالعاجل مزيدا من التحصين من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم مدنية الدولة ومنحها المكانة المركزية التي تستحق، بدونها يفقد الفصل الأول ماهيته ومسوّغات وجوده. 3/ شفرة الأحجية : م-د-ن-ي-ة + حسن النية = معادلة سحرية تتألف أساسا من خمس حروف... نطقها أرسطو منذ آلاف السنين.. جسّدها بشكل مبدع دستور المدينة -الصّحيفة- ..انبثقت عنها نظرية العمران للعلامة ابن خلدون ..وأجمعت جميع دساتير العالم الحرّ على تبنّيها.. فلما يصرّ البعض على الإيقاع بنا في خطيئة "الشذوذ الدستوري"؟