- مؤسسة الحزب السياسي هي من آليات ممارسة الديمقراطية التي استوردناها من المجتمعات الغربية. وهذه الآلية هي منتَج ثقافي ذو خصوصية يرتبط ارتباطا وثيقا بالظروف التاريخية وبالبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أفرزته. إن استيراد المنتجات الثقافية وتشغيلها في زمن وفي واقع اجتماعي مغايرللّذي أفرزها لا يعني بالضرورة أنها ستحقق النتائج المؤمل منها. ومراكزالدراسات الاجتماعية في العالم تقرّ اعتمادا على التجارب التنموية لمجتمعات العالم الثالث أن بناء مجتمع قوي ومتطورلا يكون بالنسخ والتقليد واستيراد أنماط حياتية خارجية ليس لها في الواقع المحلي أي جذور؛ بل يكون بالاستناد إلى الواقع والثقافة المحلية ومكونات الهوية وهي الدين واللغة والتاريخ؛ ولذلك فإن التوصية الأساسية التي أصبحت هذه المراكز تقدمها في دراساتها لمجتمعات العالم الثالث هي أن تعمل هذه المجتمعات بنفسها وبكفاءات أبنائها على إيجاد وخلق الحلول التي تراها مناسبة لمشاكلها السياسية والتنموية دون تقليد أونقل حرفي لهذه الحلول من مجتمعات أخرى. إن مفهوم الحزب السياسي يرتبط ارتباطا وثيقا بالحكم؛ فالهدف الأساسي من النشاط الحزبي هوالوصول إلى الحكم؛ ولذلك فإن الأحزاب السياسية تعرّف حسب "جاندا" بأنها: «تنظيمات تسعى إلى وضع ممثليها المعلنين في مواقع الحكم»؛ وتعرّف حسب صياغة "كولمان و روزبرج" بأنها: «اتحادات منظمة رسميا ذات غرض واضح ومعلن يتمثل في الحصول على (أو) الحفاظ على السيطرة الشرعية (سواء بشكل منفرد أو بالتآلف أو بالتنافس الانتخابي مع اتحادات مشابهة) على مناصب وسياسات الحكم في دولة ذات سيادة فعلية أومتوقعة». والحكم يُشبع غريزة الإنسان في التملّك وهي أقوى غريزة لدى البشر بعد غريزة حب البقاء. فالحكم يمكّن الإنسان من تملّك السلطة والتحكم في مصادرالقوة والثروة؛ وهوكما يصفه ابن خلدون في مقدمته مستعملا لفظ الملك: «الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع منه التنافس غالبا وقلّ أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة». إن تجربتنا في تونس مع النظام الحزبي بدأت فعليا بعد الثورة، أي إن عمرها لا يتجاوزسنتين؛ وقد شاهدنا تفجّر عدد كبير من الأحزاب تجاوز عددها المائة. وهذه الأحزاب يمكن حصرها في أربع عائلات فكرية إن صح ذلك وهي: الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية. إن الاختلافات الموجودة بين هذه الأحزاب من خلال برامجها ليست جوهرية، بل يمكن اعتبارها اختلافات بسيطة لا تتعلق بالمبادئ العامة بقدرما تتعلق بآليات التنفيذ؛ وهذا يفهم بالنظرإلى واقع البلاد التونسية الذي لا يسمح بأكثرمن ذلك. إن الاختلافات البسيطة وغيرالجوهرية في برامج الأحزاب لا تبررفي رأيي أن تنشأ على أساسها كيانات وهويات حزبية متمايزة. إن العدد المفرط للأحزاب السياسية حاليا في تونس لا يفهم إلا إذا أخذنا بعين الاعتبارالهدف الأساسي من تكوين الحزب وهو الوصول إلى الحكم وما يمثله ذلك من إغراء؛ وبالتالي فإن هذه الأحزاب لا هدف لها في الواقع سوى الوصول إلى الحكم، ولا يمكن فهم غاية مؤسسيها من تكوينها في غالب الحالات سوى باعتبارهذا الهدف. ونلاحظ منذ دخول نظام التعددية الحزبية إلى تونس بروزظاهرتين لافتتين للنظرفي طريقة تعامل الأحزاب مع المجتمع ومع بعضها. وتتعلق الظاهرة الأولى بنوعية الخطاب الصادرعن هذه الأحزاب والذي يغلب عليه تزكية النفس والإعلاء من شأن الحزب وبرامجه وانجازاته واعتبارأنها الأفضل دائما، وتنزيه الحزب عن كل خطإ ونقيصة مع توجيه النقد الشديد للأحزاب الأخرى وبرامجها وانجازاتها والقدح فيها والاستنقاص منها وإبرازعيوبها؛ ويصل ذلك إلى حد تجاهل الوقائع وقلب الحقائق أوحجبها بل يصل إلى حد الكذب والنفاق بكل جرأة واستخفاف بعقول الناس. وهذه النوعية من الخطاب صدرت من أساتذة ومثقفين كباركنا نجلّ علمهم وإخلاصهم للحقيقة ولكنهم أصبحوا بعد انتمائهم الحزبي ينتهكون مبادئ الحقيقية والفكرالمستقيم من أجل الانتصارلأحزابهم. وقد شاهدنا أمثلة عديدة على هذه النوعية من الخطاب بشكل شبه يومي في المجلس الوطني التأسيسي وفي البرامج الحوارية على القنوات التلفزية وفي الاجتماعات الحزبية. أما الظاهرة الثانية فتتعلق بممارسة العنف المادي من الأحزاب ضد بعضها؛ ويبرز ذلك من خلال الاعتداءات الجسدية المتكررة على عدد من ممثلي الأحزاب، ومن خلال الاعتداءات على مقرات الأحزاب المنافسة بحرقها والعبث بمحتوياتها، ومن خلال الهجوم على اجتماعات الأحزاب قصد تعطيلها. إن المحرك لهاتين الظاهرتين هو مساندة الحزب دون أي اعتبارآخر يتعلق بمشروعية المساندة أوالوسائل المستعملة؛ وهذه هي العصبية بعينها التي حاربها الإسلام وتظهرمن جديد. وكلمة العصبية تمتّ في الاشتقاق اللغوي إلى كلمة (العصب) بمعنى الشدّ والربط ولكلمة (العصابة) بمعنى الرابطة، وتسمّي اللغة العربية الخصال والأفعال الناجمة عن ذلك من تعاضد وتشيع باسم (العصبية). وقبل الإسلام كانت الكلمة تستعمل لتدل على مساندة الشخص العمياء لجماعته دون أن يأبه لعدالة موقفها. وفي معجم تهذيب اللغة ورد أن العصبية هي: أن يدعوالرجل إلى نصرة عصبته والتأليب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أومظلومين. والعصبية تقوم على أساس صلة الرحم والقرابة أوعلى أساس الولاء والتحالف. وهناك أنواع متعددة من العصبيات حسب مبناها فمنها العصبية القومية والدينية والطبقية والحزبية. والعصبية لا تكون مذمومة إذا كانت من أجل الحق ونصرة المظلوم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم» (أخرجه أبو داود). وجاء في الحديث عن عبادة بن كثير الشامي عن امرأة منهم يقال لها فسيلة قالت سمعت أبي يقول: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ك"يا رسول الله أمن العصبية أن يحبّ الرجل قومه؟" قال:" لا. ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم». وللتذكيرفإن مفهوم الظلم في الإسلام يعني كل عمل مخالف لما أمر به الله ورسوله. ولا شك أن أخطرما في العصبية المذمومة هوأنها لا تلقي اعتبارا للعقل أوالأخلاق في مواجهة الآخرين؛ فالأولوية المطلقة بالنسبة لأتباعها هوالانتصارللجماعة فقط. وهذا النوع من العصبية يرتبط بشكل ما بمعاني العنصرية والتحي والحميّة والغلوّ. وقد اعتبرالعلماء العصبية المذمومة حالة مرضية من آثارها على الفرد أنها تؤدي إلى الجمود والانقياد الأعمى والحقد والعداء. ومن آثارها على المجتمع الفرقة وإشاعة الكذب واستغلال الدين والتقاتل وحب الانتقام. إن النظام الحزبي الذي استوردناه قد أحيا العصبية المذمومة وأعادها إلى مجتمعنا، والكيانات الحزبية التي خلقها تنشط بمنطق العصبية المتحكم في أقوال وأفعال كثيرمن المنتسبين إليها وليس بمنطق الأخلاق والعقل. فهل بهذا المنطق سنبني نظامنا السياسي الجديد؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية» (أخرجه أبو داود(. كاتب وباحث