لا يمكن لأي عربي أو مسلم بل لا يمكن لأي إنسان حر يحمل في جنبات قلبه مثقال ذرّة من مشاعر إنسانية أن لا تخالطه العبرات أو الدموع وحتى البكاء المرير لمرأى المشاهد الفظيعة لمجازر المدنيين الأبرياء في غزّة وخاصة الأطفال منهم من قبل آلة الحرب الإسرائيلية العاتية في حملة شرسة استهدفت الأسبوع الماضي القطاع لأهداف قيل أنها "إنسانية" وأنها "متحضّرة"(؟!!) وحيث ومن منطلق التفاعل اللاشعوري التلقائي مع "إخواننا" في غزّة أفلت الفكر من عقاله محاولا عبر هذه الخواطر صياغة ملامح محاولة هي للبناء النظري ليس أكثر مستأنسا بأحاديث للرسول صلى الله عليه وسلّّم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان "وقوله أيضا: "الساكت عن الحق شيطان أخرس" وقلت في نفسي ترى لماذا لا أقدم بعضا للناس مما عصرته نواة الفكر في عقلي وقلبي وإن كان مجرّد قطرة من ماء في جهد يتطلب بلا شكّ بحرا عميق اللجي خاصة وأن النتائج الكبيرة والمتميزة دائما للعلم، وما أحوجنا في حياتنا لتحكيم العقل والمنهج العلمي وهي غاية فشلنا فيها لحدّ الآن على الأقل منذ دعوة المعري والغزالي وإخوان الصفا وغيرهم للعقل، هي إذن نتاج تراكم الاجتهادات البسيطة بعضها فوق بعض دون أن ينسب أحدها لنفسه فضل تملك الحقيقة المطلقة وذلك طبعا لنسبية الحقيقة العلمية. وحيث أن مشوار الألف ميل يبدأ دوما بخطوة واحدة فها أنني أضع بين أيديكم هذا الاجتهاد البسيط وأشير إلى أنني قد أخرج فيه عن مألوف الخطاب العربي والإسلامي في مثل هذه المناسبات الأليمة بحيث سوف أبدو وكأنني طائر فريد يغرد خارج السرب ولكنني سوف أتحمل كل ذلك من أجل الغايات الإنسانية النبيلة التي تحركت من أجلها في هذا المقال. (1) من جهة المسؤولية القانونية والمعنوية لإسرائيل عن جرائم الحرب المرتكبة في غزّة بحق العزل والمدنيين: حيث وعلى فرض القول جدلا بأن حركة حماس تتحمل مسؤولية التصعيد في المنطقة فإن ادعاء الجانب الإسرائيلي بكونه يمارس الدفاع عن "دولة ليست خارجة عن القانون" وجزءا من المجتمع الدولي والمتحضّر" كان يحمله طبقا لمعايير ومواصفات وأعراف القانون الدولي لالتزامات أساسية، قانونية وأخلاقية، لا شك فيها وأولها بالطبع الالتزام بعدم استهداف المدنيين في أعمال الحرب وخاصة الأطفال منهم لمساس الأمر بقيم وحقوق مقدسة للطفولة أجمعت المجموعة الدولية على حمايتها. ولا شك هنا أن استهداف إسرائيل للمدنيين وللأطفال لا يمكن أن تبرره ضرورات الأمن أو السيادة أو حتى الدفاع عن النفس لأنه يمثل قانونا جريمة حرب وربما أكثر جريمة ضدّ الإنسانية لو تقدمنا أكثر في التحليل وذلك على فرض حتى أن أعمال الحرب هذه تقوم في حالة وجود التناسب في موازين القوّة مع الطرف المقابل فما بالك وأن صواريخ حماس هي مجرد "لعب أطفال" بالمقارنة مع ترسانة الحرب الإسرائيلية ولا ترقى لأن تكون سوى وسيلة ردع بدائية. كذلك فإن ضرورات الأمن والسيادة والدفاع عن النفس لا يمكن أن تبرر بأي حال قانونا استهداف البنى التحتية وكذلك التوعد - ولو حتى مجرد التوعد - بالمحرقة إذ يعد الأمر هنا أيضا من قبيل جرائم الحرب الخطيرة التي لا يمكن قبولها بمعايير القانون الدولي الإنساني (أي القانون الدولي زمن الحروب) وتصوروا في شأن الاعتبار الأخير المتعلق بالتهديد بالمحرقة الطامة الكبرى لو ورد هذا الكلام على لسان أحد الزعماء العرب أو المسلمين أو حتى على لسان أحد زعماء اليمين المتطرف بأوروبا. إننا واستنادا لقيمنا الإسلامية نؤمن بأحكام القانون الدولي الإنساني سواء على غيرنا أو حتى على أنفسنا إذ لا ننسى بالمرّة أن أحكام القانون الدولي الإنساني الإسلامي - لو صحّ تعبيره - تحرم بتاتا على الجندي المسلم زمن الحروب المساس بالنساء أو بالأطفال أو بالشيوخ أو رجال ودور العبادة وكل ممن لم يحمل السلاح عموما (أي العزل) وحتى للشجر والثمر ويشمل ذلك بطريقة القياس للمنشآت والأبنية أي لما يسمى في عصرنا بالبنى التحتية ونؤمن بصحّة هذه الأحكام (علما واعتقادا) بوصفها جزءا أساسيا من أحكام الدين نساءل عنه لا فحسب في الدنيا أمام إخواننا البشر بل وحتى في الآخرة أمام الله ورسوله "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" إن إسرائيل ترسخ بمثل هذه الأفعال الحقد الدفين والأبدي عليها من لدن كل الشعوب العربية والإسلامية وتساهم بصورة حاسمة في وصول الأوضاع إلى درجة خطيرة جدا تصل حد اللاّّرجعة. (2) من جهة ضرورة انتفاء الخطأ الإستراتيجي من جانبنا طبقا لنظرية الأيدي النظيفة: لا شيء يمنع في النظرية القانونية والسياسية من أن ننقل نظرية من القانون الخاص (droit privé) وهي نظرية الأيدي النظيفة (the clean hands) إلى مجالات القانون الدولي العام والعلوم السياسية بل نراها على العكس من ذلك مواتية تماما لكي تنطبق على الواقع السياسي الدولي وخصوصا منه أحداث المجازر الإسرائيلية الأخيرة الفظيعة بغزّة وذلك بالطبع مع الاعتبار بخصوصيات الموضوع المنقول إليه. وبحسب مضمون هذه النظرية القانونية المجمع عليها الرأي القانوني فإن المتضرر من جريمة أومن إخلال أحد الخصوم بأحكام القانون ضدّه لا يمكنه أن ينتفع بغطاء الحماية القانونية الكاملة إلا إذا انتفى وجود كل خطأ من جانبه وقام سلوكه على أساس المطابقة لما يسمى ب"حسن النية والضمير الحسن". وحيث وعلى قاعدة هذا النقل من القانون الخاص للقانون الدولي العام والعلوم السياسية هل كان حقا "سلوكنا" كفلسطينيين في غزّة فوق كل مواضع الخطأ وموافقا لاعتبارات الضمير الإنساني الحسن؟! أكاد أجزم هنا أن من تلحقه مضرّة فإن مسؤوليته عن ارتكاب خطأ من جانبه وإن لم تكن بنفس مقدار مسؤولية الجاني بالطبع تجعل منه أيضا في وضعية من يتقاسم قدرا من المسؤولية مع هذا الأخير وإن لم تكن كما قلنا بنفس حجم مسؤولية الجاني. وانطلاقا من ثوابت المدرسة التونسية في التفكير السياسي وهي التي أختارها عن عقل وتبصر وإيمان دون أي ضغط أو تملق فإنني أورد بعض الملاحظات الآتية: أولا- حول الهدف النهائي والأسمى للقضية الفلسطينية :حيث أنني أقدر أنه علينا واجب مصارحة الشعوب وخاصة الشعب الفلسطيني بالحقيقة حيث أنها صارت رشيدة وعلى درجة كبيرة جدا من النضج دونما الكذب عليها بواسطة الآمال الوهمية أو تشييد القصور بالأندلس فنخاطب عقولها ثمّ قلوبها لكن أبدا غرائزها البدائية. ومعطى هذه الحقيقة أن العالم العربي والإسلامي قد اختار السلام خيارا استراتيجيا ليس لعجز الأنظمة عن المواجهة العسكرية كما قد يروّج الكثيرون أو يعتقدون ذلك خطأ ولكن لأن هدف تحرير كامل فلسطين التاريخية هو هدف غير جدير بأن نسعى إليه بل هو أكثر من ذلك هدف يجب أن يسعى كل إنسان في الظرف الراهن إلى السعي والعمل الدؤوب على تجنبه لأنه سوف يعني بكل بساطة نشوب واندلاع الحرب العالمية الثالثة التي سترسل بكوكبنا الأرض ولكل ما يعيش على سطحه ويتنفس الهواء ويستنشق الحياة إلى أتون الفناء وربما (من يدري!) إلى عدم لا رجوع منه: إذ إذا كان لإسرائيل ألاف القنابل النووية وكانت مدعمة بكل الغرب لحماية وجودها فإن تحقيق هدف إزالتها من الوجود يتطلب وسائل مماثلة لا تقلّ في القيمة أي سلاح نووي فعال من جهة وتجمع فضاء حضاري وجغرافي من جهة أخرى أي وباختصار مواجهة لا تبقي ولا تذر شيئا هذه المرّة بين الغرب المسيحي والصهيونية من جهة وكامل العالم الإسلامي من جهة أخرى وهنا ماذا تفعل بقية البشرية التي لا دخل لها ولا يعنيها بالمرّة صراعنا مع الآخرين وتريد أن تعيش حياتها بسلام؟! ثانيا - حكمة نظرية الحركة الوطنية التونسية: حيث تقوم النظرية السياسية الحكيمة لحركتنا الوطنية على عدم التصادم العسكري مع العدو وتجميع كل فئات وقوى الجبهة الداخلية من أجل هدف واحد تسخر جميعا في عمل سياسي موحد (لا عسكري) يستجلب أول ما يستجلب الضغط السياسي العالي على الخصم سواء من داخل نفسه أو من طرف الرأي العام العالمي الذي يتعاطف بذلك بشدّة ليس فحسب مع قضيتنا ومطالبنا المشروعة بل وأيضا مع صورتنا لدى الغير. وبذلك فإن بعض الفصائل الفلسطينية لما تجانب هذا التمشي وتصر على خيار المقاومة المسلحة من أجل "تحرير واستعادة كامل الأرض التاريخية " فإنها برأيي (الذي قد يكون خطأ) ترتكب خطأ فادحا لأنها تواصل السير في طريق القتل والمآسي ومسلسل العذابات والتشريد لما لا نهاية، كما أن هذا النمط من السلوك على الفرض جدلا بنجاحه يوما فإنه لن يؤول إلى بناء الدولة المدنية والديمقراطية القادرة القائمة على المواطن النموذج والمسالم ولكنه سوف يخلق على المدى البعيد دولة غير مستقرة يشقها دائما وباستمرار مواطنون آمنوا بأن لا حلول في هذا العصر إلا وفق منطق القوة وشريعة الغاب التي ستتحكم حتى في أبسط ميادين الحياة الإنسانية هناك فما بالك بأعقدها أو أكثرها أهمية. إنني أحلم بأن أرى أطفال فلسطين يدرسون ويلعبون ويعيشون حياتهم ككل أطفال العالم كما أحلم أيضا بأن أرى شباب ونساء وشيوخ فلسطين يعيشون حياتهم بكامل الحرية وفي كنف الكرامة وبكل الرخاء والرفاهية التي يستحقها كل شعب مرت عليه ويلات القرنين ولا أريد أن أرى أطفال هذا الشعب بالخصوص كركاب طائرة مخطوفة تساق للموت دون ذنب كما تساق الخرفان والنعاج. نعم لنا أن نطالب بحقوقنا الشرعية الكاملة ضمن القرارين 242 و338 بل وحتى أكثر لنطالب بمضمون القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يعطينا كامل النصف وليس مجرد الربع من فلسطين التاريخية ولا تكون أبدا اليد التي تتسبب في فناء الأرض ونفاق الإنسانية فذلك سيكون العجز الحضاري الأكبر من كل عجزنا الحضاري السابق والحاضر والمستقبل مجتمعين. إننا نقول هذا من منطلق الوفاء لروح نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتذكر باستمرار موقفه الإنساني النبيل أثناء توقيع معاهدة صلح الحديبية لما فسخ عبارة "محمد رسول الله" لتعوض "بمحمد بن عبد الله" فقط حرصا على أن لا تكون هناك فتنة في الأرض وفساد كبير بسببه... إن التزامنا الأدبي كخير أمة أخرجت للناس ليس لكوننا شعب الله المختار على أسس عنصرية أو عرقية خيالية ننزه الله تعالى عنها، يفرض علينا بلا شك أن نكون دائما ومع الجميع " رحمة للعالمين". نعم لنخض الحرب ولكن ليكن ذلك من أجل السلام ولنعقد السلام من أجل محبة وخير الإنسانية قاطبة لكن لا للأفكار والشعارات التي أثبت دوما مبدأ الواقع إفلاسها الشامل وخاصة بكونها لا تليق بأمة هي خير أمة وجديرة بأفضل مكانة لائقة بين الأمم تحت شمس الأنوار والتقدم والحضارة... إننا بحاجة اليوم إلى ألف ألف مهاتما غاندي ولكن يكون حقيقيا وليس بمسيح دجال أو بمهدي دعي ومزيف وفالصو كما أن الشعب الفلسطيني وهو يمر بهذه المرحلة الحرجة والحاسمة والدقيقة من حياته وفي تاريخه في حاجة إلى رجل في واقعية وبرغماتية وقوة شخصية وكارزماتية الزعيم بورقيبة رحمه الله يقوده لبر الأمان ونحو شاطئ النجاة والسلامة وهنا يحق علينا إن غلب الله على أمره وصف الشهيد لكوننا لا نناضل من أجل زرع الفناء والخراب ولكننا نناضل من أجل أن نزرع الحياة والجمال والنماء في كل مكان. إن الهدف الأسمى والنبيل الذي علينا أن نسعى إليه جميعا، كبيرا أو صغيرا، صحيحا أو معوقا، رجلا أم امرأة هو حقنا... في أن نفيد الغير... في أن نفيد الإنسان... كل إنسان... من باكورات إنتاج عقولنا... وهذا في حد ذاته موضوع آخر تماما... (*) المحامي لدى الاستئناف والباحث القانوني