بيوت هدّمت على أصحابها.. مساكن باتت أثرا بعد عين.. صواريخ تدكّ كل ركن أو بقعة من غزّة.. أطفال بترت أرجلهم.. رضّع لم يتلذذوا بعد حليب أمهاتهم، يكرمون بالشهادة وهم لم يتجاوزوا بضعة أشهر من خروجهم للدنيا.. أمهات ثكالى تبكين أطفالهن وأولادهن الذين ينتزعون منهنّ يوميا بفعل صواريخ الغدر والفاشية الصهيونية.. صرخات الرجال ودموعهم المنهمرة، رغم أن الرجال لا يبكون دائما.. أطفال "يتنططون" هنا وهناك هربا من صاروخ يتنزّل عليهم من مروحيات أميركية وفرنسية الصنع.. أو ربما بعض شظاياها على الأقلّ.. رضّع يفتقدون للحليب.. أطفال مرضى ممنوعون من الأدوية.. شوارع غزّة المظلمة بفعل انقطاع التيار الكهربائي، بقرار إسرائيلي.. محلات الأغذية في عطلة إجبارية بسبب الحصار والمجازر.. باتت أيام سكان غزّة، أعياد أضحى يومية.. وصدقت امرأة غزّاوية عندما قالت "الماء بات أغلى من الدّم الفلسطيني".. أب يحمل رضيعه الشهيد بين يديه لدفنه في مقبرة غزّة التي تزداد اتساعا لأكبر عدد ممكن من الشهداء الفلسطينيين، الذين يتقاطرون بفعل القذائف والصواريخ الإسرائيلية المنهمرة في كل آن وحين على سكان هذه القطعة من الأرض الفلسطينية.. مدارس تحتضن تلاميذ بلا ميدعة.. بلا محافظ.. بلا دروس منزلية.. بل بلا غذاء في أحيان كثيرة.. مستشفيات خالية إلا من أطباء يعدّون على أصابع اليد، وكل ما يتوفرون عليه عدد من الثلاّجات لاستقبال الشهداء وقطع من القماش الأبيض لكفنهم.. بيوت مفتوحة على مصراعيها تعدّ لمواكب الموت والشهادة وإلقاء آخر التحايا على الشهداء.. تلك هي غزّة، القطاع الذي يقطنه مليون ونصف المليون فلسطيني، ضاق أهله على إسرائيل التي تتمتع بضوء أخضر غير مسبوق لدكّ المدنيين والعزّل بذريعة الردّ على ما يوصف ب "الإرهاب الفلسطيني".. ضوء أخضر أودى بحياة 129 شهيدا، بينهم أربعون طفلا و13 امرأة، بالإضافة إلى نحو 400 جريح بينهم 100 طفل يعانون من الكسور والبتر والعاهات المختلفة فضلا عن "الحالة النفسية" التي بات عليها قسم من الأطفال الفلسطينيين ممن يعيشون الرعب الممنهج يوميا جراء القصف المتواصل ورصاص القنّاصة الإسرائيليين.. صورة تعكس ما وصفه المراقبون ب "المحرقة" و"المجازر البربرية" التي تقودها آلة الحرب الإسرائيلية بدعم أمريكي وصمت عربي رسمي من الطراز غير المسبوق.. حالة غزّة، تأكيد متجدد على لعبة السياسة القذرة.. وعلى نهاية الهاجس القومي لدى النظام العربي الرسمي، ودليل إضافي على انزياح "الشرعية الدولية" باتجاه المصلحة الأميركية الإسرائيلية دون سواها.. وعلى ولادة تشكّل جديد للنازية والفاشية مع مطلع القرن الواحد والعشرين.. فاشية تريد زعامة "شرق أوسط جديد" على أنقاض غزّة، وربما لبنان وسوريا وإيران، وكل من يريد أن يكون ضمن قافلة الممانعة.. من المؤكد، أكثر من أي وقت مضى، أن رياح "الشتاء الساخن، ستلقي بوهجها على المنطقة وسط مؤشرات كثيرة لحرب متوقعة يجري الحديث عنها بالتلميح والتصريح.. لكنها ستكون مختلفة عن الحروب الإسرائيلية العربية السابقة.. المنطقة على فوهة بركان.. لا بل هي على كفّ عفريت.. والعفريت هذه المرّة هو القانون الدولي وسياسات الدول العظمى، اللذين "يشرعان" ل "الفوضى الخلاقة" بأياد إسرائيلية محترفة.. .