- تعيش بلادنا فترة تأسيسية لنظام سياسي جديد، والمشكلة الأساسية التي تواجهها تتمثل في غياب نمط أو مرجعية ثابتة يُستمد منها بناء هذا النظام. إن أساتذة وخبراء القانون الدستوري في بلادنا ليس في جعبتهم ما يقدمون لنا من حلول سوى ما تعلموه من المدارس الغربية في هذا المجال لا يتجاوزونه قيد أنملة؛ إنهم غير قادرين سوى على ترديد النظريات والتجارب السياسية الغربية والاستشهاد بها دون اجتهاد أو إضافة، فهم يستوردون ولا يخلقون. أما النخب التي وصلت إلى الحكم على أساس مرجعية الإسلام فإنها لم تسع إلى الدعوة بالمعروف لقواعد الحكم في الإسلام وتقديم اجتهادات معاصرة تتعلق بآليات تطبيقها. لقد تجمّد الجميع فكرا وممارسة عند أنظمة الحكم الغربية وخاصة النظام الديمقراطي ومؤسساته؛ وقد نسوا أو تغافلوا على أن هذا النظام ما هو إلا نتاج بشر مثلهم وليس قرآنا منزلا من رب العالمين مفروض عليهم إتباعه بحذافيره دون مناقشة أو تعديل. إن النظام الحزبي هو أساس الممارسة السياسية في النظام الديمقراطي المعاصر؛ وقد حان الوقت بعد عامين من تجربتنا لهذا النظام لتقييمه. لقد تسبب النظام الحزبي في تقسيم الشعب التونسي إلى جماعات ذات انتماءات حزبية مختلفة تشتغل بمنطق: "من ليس من حزبنا فهو ضدنا"، وأشعل العداوات والصراعات التي أصبحت الخبز اليومي للمواطن التونسي يصبح ويمسي عليه في كل مواطن الحوارات، وأحيى العصبية التي جعلت من مساندة الحزب قيمة أعلى من كل القيم الأخرى حتى ولو كانت في كتاب الله؛ وامتد الصراع إلى الاعتداءات على الأشخاص ومقرات الأحزاب، ووصل أخيرا إلى إزهاق الأرواح البشرية. فهل يمكن أن ننكر بعد كل ذلك أن مشاكل تونس قد زادت بسبب الأحزاب وأنشطتها؟ سلبيات النظام الحزبي يعرّف الدكتور "أسامة الغزالي حرب" في كتابه "الأحزاب السياسية في العالم الثالث" الحزب السياسي بما يلي: «اتحاد أو تجمع من الأفراد ذو بناء تنظيمي على المستويين القومي والمحلي يعبر في جوهره عن مصالح قوى اجتماعية محددة، ويستهدف الوصول إلى السلطة السياسية أو التأثير عليها بواسطة أنشطة متعددة خصوصا من خلال تولي ممثليه المناصب العامة سواء عن طريق العملية الانتخابية أو بدونها». وتكوّن حزب يعني دائما التوحّد مع مجموعة والاختلاف عن أخرى، فكل حزب يشترك في تنظيم معين وينفصل عن آخرين بواسطة برنامج محدد. ولا يمكن الحديث عن نظام حزبي إلا في حال وجود تعدّدية حزبية. والتعدّدية الحزبية يجب أن تكون انعكاسا وتعبيرا عن واقع اجتماعي متعدّد ولا تكون متعسّفة على الواقع أو مسقطة عليه. والاختلاف في الرأي يمكن أن يوجد داخل الحزب الواحد وليس بالضرورة خارجه وبين عدد من الأحزاب. إن النظام الحزبي قد وجهت له منذ نشأته عدة انتقادات يمكن حصرها في أربعة نقاط وهي: - إن الأحزاب تقسم المجتمع على نفسه وتثير الصراعات - إن الأحزاب تؤدي إلى الفساد وانعدام الكفاءة الإدارية - إن الأحزاب تشجع على عدم الاستقرار السياسي وتضعف الدولة - إن الأحزاب تفتح الباب للتأثير والاختراق من القوى الخارجية. وكان جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدةالأمريكية يعارض تشكيل الأحزاب السياسية، وقد حذر من الآثار المؤلمة للروح الحزبية على نظام الحكم الأمريكي حيث قال: «يؤدي الحزب دائما إلى إلهاء المجالس العامة وإلى إضعاف الإدارة العامة، ...ويلهب العداوات ويثير الشغب والاضطراب، إنه يفتح الأبواب للنفوذ الخارجي وللفساد اللذين يصلان بسهولة إلى الحكومة نفسها من خلال القنوات التي تتيحها الأهواء الحزبية». ومن سلبيات النظام الحزبي الأخرى أنه يقضي على الاستقلالية الفكرية للأفراد، فأعضاء الحزب مجبرون على الخضوع لما تقرره الهيئة التنفيذية في ذلك الحزب ولو لم يقتنعوا بصوابه، وإلا فإن مصيرهم هو الطرد من الحزب. ووفقا لما يراه "ميتشلز" فإن التنظيم الحزبي بذاته يؤدي بالضرورة إلى حكم الأقلية نتيجة تركيز القوة في أيدي مجموعة قليلة من الأفراد. الأحزاب والسلطة من حيث الشكل القانوني تصنف الأحزاب السياسية ضمن الجمعيات (الفصل 2 من المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية) أي أن نشاطها يجب أن يكون نشاطا تطوعيا لا تترتب عليه أرباح أو مكاسب. ولكن الحزب بإمكانه دون سائر أنواع الجمعيات الأخرى تقديم مرشحين في الانتخابات تمكنهم من تقلد مناصب في السلطة، وهو ما يعتبر كسبا لأعضائه. فهل أن النشاط الحزبي هو فعلا مجرد نشاط جمعياتي تطوعي؟ هذا ما يصعب الجزم به، ولو كانت الأحزاب مجرد جمعيات تقوم بنشاط تطوعي فكيف نفسر ما يبذله أعضاؤها من جهد جهيد وصراع مستميت قصد الوصول إلى مناصب الحكم؟ والسؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل أن الأحزاب السياسية مؤهلة لتكون المصدر الأساسي الذي يقع من خلاله اختيار المرشحين للانتخابات وممارسة السلطة في المستوى الوطني والجهوي والمحلي؟ إن مرسوم الأحزاب لا يشترط في مؤسسي الأحزاب ومسيريها والمنخرطين فيها أي مستوى تعليمي، كما أن نسخة مسودة الدستور التونسي المنشورة بتاريخ 14 ديسمبر 2012 لا تتحدث عن أي شرط يتعلق بالكفاءة لدى المسؤولين في أعلى المناصب الحكومية بمن فيهم رئيس الدولة والوزراء وكتاب الدولة. إن المناصب الحكومية التي تمارس من خلالها السلطة هامة وخطيرة، فالمتولون لهذه المناصب موكلون من طرف الشعب لاتخاذ قرارات تهم كل المواطنين وجعلها نافذة عليهم بالقوة. إن تولي مناصب السلطة يجب أن يكون قائما على مبدأي الأمانة والكفاءة وما يدل عليها من تفوق وقدرة على الإنجاز وليس على اعتبارات أخرى. وللأسف فإننا نتعامل مع هذه المناصب بشكل خاطئ معتبرين إياها تشريفا يسند للمناضلين أو عملا عرضيا يمكن أن يتداول عليه الأفراد دون اعتبار خلفياتهم. وهذا غير صحيح فهذه الوظائف تتطلب ككل عمل يقوم به الإنسان التخصص، وهي كلها وظائف تقنية تخصصية بما فيها التي يسمونها حاليا وظائف سياسية. والتخصص يعني اقتصار كل فرد على عمل معين يدخل ضمن تكوينه الأساسي وخبرته المهنية، وهذا يؤدي إلى الإتقان والجودة في الانجاز، وتدخل المرء في عمل من غير تخصصه يؤدي إلى الفساد. ومن المفترض إذن أن تولي مناصب السلطة يكون المرجع فيه للأمانة والكفاءة وهذا لا يتحقق إذا كان الترشح والتعيين يقوم فقط على أساس الانتماء الحزبي والفوز في الانتخابات. الأحزاب والمعارضة إذا أردنا التمسك بالنظام الحزبي رغم كل الويلات التي رأيناها منه فإن الأمر يستدعي مراجعة هذا النظام وتصحيحه بما يخدم الواقع والمصلحة. فهو ليس قرآنا منزلا، ولم يفرضه علينا أحد. وهذا التصحيح قد أدرك مضمونه رئيس الحكومة الحالية السيد حمادي الجبالي من خلال التجربة والممارسة وليس من مجرد التنظير الفكري أو التقليد الأعمى للغير. إن الأحزاب لا تضمن من خلال مرشحيها وصول الكفاءات والمؤهلين لتقلد المناصب الحكومية. وفي غالب الأحوال لا تهدف الأحزاب سوى الوصول إلى السلطة واعتبارها غنيمة وانتصارا لها، وهي تسبّق مصلحتها على المصلحة العامة. وينتج عن ذلك الصراعات التي تصل إلى حد التقاتل وقد تجر البلاد إلى الفوضى؛ ولذلك وجب فك الارتباط نهائيا بين الأحزاب وبين تقلد المناصب الحكومية. والبرامج الحزبية التي قد تبرّر بها الأحزاب وجودها وصعودها إلى الحكم ليست في واقع الأمر سوى برامج نظرية عامة وتوقعات مستقبلية غير مجزوم بصحتها ولا يتوفر أي ضمان حقيقي لتطبيقها، كما أن عامة الناخبين ليس لديهم القدرة على تقييمها بشكل علمي صحيح، فهي أقرب إلى الدعاية الانتخابية لجلب الناخبين منها إلى البرامج الحقيقية. إنّي أرى أنه من الضروري التفكير منذ الآن في أن تصبح وظيفة الأحزاب السياسية مستقبلا مقتصرة على المعارضة ومراقبة النشاط الحكومي لا غير؛ وسنرى بعدها أن عدد الأحزاب سيتقلص بشكل كبير ولن يبقى منها سوى الأحزاب التي تريد بالفعل أن يكون نشاطها تطوعيا ولمصلحة الوطن دون مكاسب شخصية أو حزبية. ولا يعني هذا إلغاء سيادة الشعب وحريته في اختيار ممثليه عبر الانتخابات، ولكن يعني أن الترشح للانتخابات يصبح مبنيا على أساس الأمانة والكفاءة مع تحديد مؤشراتها بالنسبة لكل منصب، وليس على أساس الانتماء الحزبي. وبذلك يكون اختيار الناخب يقع ضمن مرشحين تتوفر فيهم الشروط الموضوعية لتولي مناصب السلطة. * كاتب وباحث