تميزت فترة الثمانينات والتسعينات بحراك سياسي في المؤسسات التربوية والجامعية، وقد مثلت تلك الفترة أوج الحركتين التلمذية والطلابية، إلا أنهما شهدتا تقلصا ملحوظا خلال العقدين الأخيرين وصل إلى حدّ انعدام النشاط السياسي في الأوساط التلمذية خلال تلك الفترة. لكن بعد واقعة اغتيال شكري بلعيد، عاد الحراك السياسي في بعض المعاهد، وبتنا أمام تلاميذ يسعون إلى دخول معترك الحياة السياسية وتكريس ممارستها في الوسط التلمذي. "الصباح الأسبوعي" رصدت بعض الأمثلة حول هذا الموضوع وتحدثت إلى عدد من التلاميذ وأستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس محمد الجويلي، كما التقت "الصباح الأسبوعي" بوزير التربية عبد اللطيف للحديث حول هذا الموضوع، فالوسط المدرسي لا يزال هشا إلى اليوم، بشهادة الجميع، مما يسهّل عملية اختراقه وتوظيفه. معهد ابن رشيق بالزهراء شهد بداية الأسبوع الماضي تحركا تلمذيا وسط الساحة وصل إلى حدّ تدخل أعوان الشرطة لفضّ خلاف نشب بين أنصار الجبهة الشعبية وأنصار الخلافة الإسلامية. فعلى إثر اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية شكري بلعيد، نظم عدد من تلاميذ المعهد وقفة احتجاجية بساحة المعهد ألقى خلالها بعض التلاميذ خطابا ندّدوا فيه بواقعة اغتيال شكري بلعيد، وتمّ خلال هذه الوقفة رفع شعارات الجبهة الشعبية وشتم حركة النهضة وزعيمها كذلك. خلاف تلمذي استوجب تدخل أعوان الأمن وردا على هذا التحرك التلمذي الاحتجاجي المناصر للجبهة الشعبية، تجمع عدد آخر من التلاميذ بساحة المعهد ورفعوا راية "لا إله إلا الله" تعبيرا عن رفضهم لنشر الفكر اليساري وتأكيدا على تشبثهم بقيام الدولة الإسلامية، وهو ما يعكس وجود تيارين مختلفين داخل المعهد غير قادرين على اتباع أسلوب الحوار دون عنف للتعبير عن موقفيهما، فقد أدّى الخلاف بينهما إلى تدخل أعوان الأمن نظرا إلى عدم قدرة الإطار التربوي على فض الخلاف. لكن هذا التحرك التلمذي بمعهد ابن رشيق بالزهراء لم يكن الوحيد وإنما تزامن معه تقريبا الإعلان عن توحّد الحركة التلمذية بين ستة معاهد موجودة بجهة قفصة "تضامنا مع الرفيق الراحل شكري بلعيد الذي يعدّ من أبرز مؤسسي الحركة التلمذية والناشطين فيها.."، وذلك مثلما ورد في نص بيان الإعلان عن توحيد الحركة التلمذية الذي تضمن جملة من مطالب التلاميذ، وأثبتت الفترات السابقة أنّ الحركات التلمذية ليست بمنأى عن ممارسة النشاط السياسي داخل المعاهد كما هو الشأن بالنسبة إلى الاتحاد العام لطلبة تونس المعني أساسا بالدفاع عن حقوق الطلبة. في نفس الإطار، نشر موقع "الصحفيين التونسيينبصفاقس" خبرا مفاده إلقاء مدير أحد المعاهد بولاية صفاقس إثر الانتهاء من تحية العلم خطابا دعا فيه التلاميذ إلى النضال "مما أدخل حالة من الارتباك غادر على إثرها بعض التلاميذ المعهد"، حسبما ورد في موقع الصحيفة. إن هذه الوقائع لا تتعلق سوى ببعض المعاهد، لكن هل توجد فعلا نزعة لدى التلاميذ نحو ممارسة النشاط السياسي داخل أسوار المعاهد؟ وهل من شأن ذلك يتعطل سير الدروس؟ انعدام الثقافة السياسية يجعل باب التأثير في التلاميذ مفتوحا ناظم علي الرحموني (تلميذ سنة رابعة ثانوي رياضيات بمعهد الأمل بسيدي رزيق)، يرى أن ممارسة السياسة في الوسط التلمذي يساهم في تنمية الوعي السياسي لدى التلميذ، حيث قال ناظم ل"الصباح الأسبوعي": "عندما يدخل التلميذ إلى الجامعة سيجد نفسه حاضرا ومتشبعا بالحياة السياسية، لكن الخوف كل الخوف اليوم من ممارسة النشاط السياسي وسط المعهد فمن شأنه أن يؤدي إلى انقسامات في صفوف التلاميذ ونشوب خلافات تنتهي بالعنف وتعطل سير الدرس، مثلما حصل بمعهد ابن رشيق بالزهراء"، على حدّ قوله. من جهتها، دعت التلميذة سهى الوسلاتي إلى تجنب ممارسة النشاط السياسي داخل أسوار المعهد لانعدام الثقافة السياسية لدى معظم التلاميذ، وهو ما من شأنه أن يجعل احتمال التأثير فيهم واستغلالهم من قبل أحزاب سياسية أمرا واردا جدا. وقال التلميذ مهاب سنوسي الذي شارك في الوقفة الاحتجاجية لتلاميذ :"إن غياب إطار تلمذي مهيكل سيؤثر في حسن سير التحركات الاحتجاجية ولذلك نحن نسعى إلى إنشاء حركة تلمذية". إن البدء في إنشاء حركات تلمذية ببعض المعاهد، كما هو الشأن للمعاهد الستة بجهة قفصة، وتفكير تلامذة معاهد أخرى في النسج على خطى تلامذة معاهد قفصة دفع بنا إلى الاتصال بأستاذ علم الاجتماع محمد الجويلي ليحدثنا عن ممارسة النشاط السياسي في الوسط التربوي خاصة في ظل هشاشة المؤسسة التربوية وعدم توفر الثقافة السياسية لدى معظم التلاميذ، مما يترك باب اختراقها من قبل مختلف التيارات السياسية مفتوحا. "الأحزاب في حاجة إلى انتداب فاعلين جدد.. والتلميذ هو الحل" في إطار حديثه معنا، أكد الأستاذ الجويلي أنّ الحركة التلمذية في فترة السبعينات والثمانينات لعبت دورا مهما في تمويل الجامعة بفاعلين سياسيين، قائلا: "نحن بصدد العودة إلى مرحلة الثمانينات، فالأحزاب السياسية كانت حينها في حاجة إلى دخول الوسط التربوي بهدف نشر أفكارها، وهو نفس السيناريو الذي يتكرر اليوم". واعتبر الجويلي أن الرهان السياسي اليوم على التلاميذ بات كبيرا خاصة "أن الأحزاب تريد أن تكون لها قاعدة تلمذية ثم طلابية تسعى من خلالها إلى انتداب فاعلين سياسيين جدد، وطبعا لتجديد العناصر الفاعلة لا بدّ من الذهاب مباشرة إلى الوسط التلمذي". ويرى المختص في علم الاجتماع أن الإعلام لعب دورا مهما في تنمية الوعي السياسي لدى التلميذ الذي بات متعطشا لممارسة النشاط السياسي، فتكون بذلك المؤسسة التربوية متنفسا له. وعن مدى جدوى ممارسة السياسة داخل الأوساط التلمذية كما هو الشأن بالنسبة إلى الأوساط الطلابية، أفادنا محدثنا أنه مع عدم وجود تيارات سياسية وإيديولوجية داخل المعاهد قائلا: "أنا مع وجود حركة مدنية، لكن الوقت لا يزال باكرا بالنسبة إلى التلاميذ على ممارسة السياسة..". فمن شأنه تقسيم المعاهد إلى عائلات سياسية وأن يتحوّل التجاذب في الساحة السياسية إلى تجاذب سياسي آخر في المعاهد الثانوية. ودعا الأستاذ الجويلي في هذا الصدد وزارة التربية إلى منع النشاط السياسي داخل المعاهد خاصة خلال هذه الفترة التي يشكو فيها معظم تلامذتنا من تصحّر سياسي.