تفتح "الحفيدة" الرواية الجديدة للكاتب والشاعر التونسي محمد الخالدي الصادرة عن الدار التونسية للكتاب، واسعاً باب استقراء الذات والواقع والتاريخ والغوص في فيافيها البعيدة ومفاصلها العديدة، فمحمد الخالدي قام بالتصدي لكتابة عمل روائي.. ولأن الذات، وفق تعريف نقدي قديم، قد تكون الموضوع، وتتداخل فيه، وتحل بآثامها وآفاقها وأحلامها فوق ألوانه المتلاطمة، فإن الذات التونسية، على وجه الخصوص، كثيراً ما ترتاح لهذه الوصفة السحرية النقدية المتقاطعة مع وجدان الإنسان الجريح بمعاناته وفقده، وإحساس الوحدة الساكن أعماق روحه، ومختلف تمثلات وجوده في الكون والمعنى والضمير.. إنها الذات المتمزقة بين حاجتها للآخر، التونسي الجنوبي من هذا الآخر على وجه الخصوص وبين غضبها وإحباطاتها وإدانتها لإدارة هذا الآخر ظهره لها ولعدالة قضيتها وشرعية مطالبها. التونسي هنا في رواية "الحفيدة" هو أحوج الناس لإقناع الآخر بحيوية ذاته، وزخم تجربته، واكتمال عناصر المأساة ومختلف تجلياتها عند التبصر بحالته الاجتماعية الوطنية القومية الإنسانية الأخلاقية القيمية الدينية الإيدولوجية... وهو أحوج الناس لأن يكون مقنعاً غير منفر عندما يبدأ بسرد مأساته، فيتطرق اليها من الجذور ليطرح معاناته ويفسح المجال واسعا للخوض في تفاصيلها، ويومياتها... ومع تسارع وتيرة الحياة المعاصرة وتراجع الكثير من قيم زمان، وظهور مآسٍ أخرى تخص أمماً وشعوباً أخرى، وقعت مأساة الشعب التونسي، في مأزق.. مأساة أخرى، إضافة لمأساة اضطهاده ومعاناته الطويلة لكل اصناف الظلم واستغلاله حتى في دوره وفي مختلف أوجه حياته وبيوت أحلامه وأرض أجداده، إنها مأساة العرض والطلب... فأصبح لزاماً على مبدعيه وأدبائه وفنانيه ومؤرخي حكايته، وموثقي الجريمة التي ارتكبت بحقه تحت مرأى الدنيا بأسرها ومسامعها وعلى إعلامييه وأكاديمييّه وحتى حرفييه ورجال أعماله وتجاره وسياسييه، أن يكونوا على سوية عالية من قدرات الإقناع، وسلاسة القبول.. ووفق ما تقدم تشكل "الحفيدة" محاولة من قبل كاتبها، لتسويق حكاية أهل المناجم عبر التاريخ مع مسلسل طويل من الاستغلال الفاحش والظلم والاضطهاد والقمع والتسلط... ولأن راوي قصة الواقع هنا، ليس شخصاً عادياً، بل شاعر وكاتب روائي، يملك أرشيفاً يكاد يتفوّق على أرشيف مؤسسات بأكملها، فإن الرواية يصير لها طعم آخر، ودلالات أخرى، وآفاق كذلك... يروي الخالدي في"الحفيدة" الواقعة في أكثر من220 صفحة، بعض ذاكرة اكتشاف الفسفاط بعد انتصاب الحماية في نهاية القرن التاسع عشر، ويفتتح روايته كالتالي: "لم يكن لتلك المنطقة من الارض اسم شامل تعرف به، بل كانت اراض تتقاسمها القبائل..." ثم يضيف في فقرة موالية:" اثبتت التحاليل بان ذلك التراب الاخضر المائل الى الرمادي هو الفسفاط...". ويواصل سرده:"كان الغرباء الفرنسيون يتكاثرون يوما بعد يوم حتى انشأوا النواة الاولى للمدينة وهي عبارة عن حيين منفصلين..." ليحول اهتمامه إلى قرى مجاورة لم تكن الحرب قد داهمتها بعد،،،". من توافد الفرنسيين،، الى قبائل من سلالة بني سليم، فأم العرائس والرديف والمظيلة، الى المغامر الايطالي ليوني باتيستا وزميله ادوارد فانسانتي وزوجتيهما ينشدون في هذه الرواية الخلاص والهروب من الحضارة الغربية التي لم تعد تستجيب الى حاجات جيلهما الروحية.. ثم الحارس مسعود.. والطيب بوساحة، وفتحي... وغيرهم من الشخصيات التي استعان بها الكاتب لابراز بعض المواقف أو للايحاء والسخرية من بعض المواقف الاخرى. وفي قفلة الرواية، يسأل خميس الأعور: ماذا كنت ستفعل لو كنت انت من اكتشف الكنز؟، ذات أمنية، العودة بتصريح، فيجيب صالح الفاني في تهكم: واين الجديد في ما تقول؟ فمنذ عرفتك وانت تلتهم الرؤوس المصلية.. من هنا يبدا محمد الخالدي في تكسير المحكي عن طريق هدم جزئي أو كلي لبنيته السردية، وخلخلة توازنها (فك الحبكة، تشظي الزمن...) وخلق توازن آخر تعدل فيه فوضى الكتابة فوضى الأشياء الذات، الواقع.. إلغاء افتراض وجود ماهية مسبقة وثابتة لجنس الرواية ودلالة ذلك على الابتعاد عن المعياريّة والنموذج العالي.. وإسقاط الحدود الفاصلة بين الرواية والأجناس الأدبية الأخرى وحتى اللاّ أدبية (كالشعر والصحافة والتراث والبيوغرافيا والتاريخ والأسطورة والسينما والتوثيق...) حتى تفيد من إمكاناتها التعبيرية. وتوسّع فضاءات التخييل التي تغدو من المرجعيات الفاعلة في هذه الرواية مع إحلال حوار مختلف غير سائد أو نسف البنية ومن ثم الاشتغال بها وعليها توظيفا ومعنى وبناء مع الاشتغال على الحوار... كما أن هناك انصهار الذات في مادة الكتابة، من خلال توظيف الشخوص لتعريتها بالخوض فيها، لاكتناه مضمر العلاقات الداخلية التي تحكمها الملتبسة أبدا بالقلق والتوتر، واليأس ومن هنا تكون لعبة الأدوار السردية حيث يتم الانتقال من ضمير السرد إلى "الهو"، إلى "الهم" إلى "الأنتم" فتنفتح دائرة التشخيص واللعب بالضمير من خلال الحوار.... هذه الرواية تمترس عملية ترسيم المهمش وإدراج المقصى وتحيين الذاكرة وتوقيع لكابوس وإحياء الموروث واستعادة الشعبي وترحيل التاريخ، وتجميع الفردي وتفريد الجمعي وراء شعرية روائية تمجد الحوارية والتعددية وتراهن على خاصية التحول والتبدل.... وفي "الحفيدة" أيضا هناك تركيب العالم التّخييلي الواقعي المستحيل عن طريق تأثيثه بالاستيهام والحلم والخيال مما يولد لدى الروائي ولع عارم بالتفاصيل وتتخلق لديه شهوة القص خاصة لما يندس في تضاعيف الحياة اليومية أو ينبش في تلافيف الذاكرة فتتقصى أحوال الذات في تفاعلها مع المعيش والمكرر والرتيب الملتقط عبر المرئي والمسموع والملموس جميعا.. هذا بعض ما تجاوزت به الرواية نفسها لتعيد كتابتها، وتقف على تخوم التجريب مع المحافظة دوما على كونها جنس لل"حوارية" بامتياز...