طرح المفكّر والباحث كمال الزغباني في إطار ندوة دولية نظّمتها المندوبية الجهوية للثقافة بصفاقس والمعهد العربي لحقوق الإنسان وكلية الآداب والعلوم الإنسانية اختتمت أشغالها يوم أمس سؤال: ما معنى أن تكون يساريا "اليوم"؟ وما مدلول هذا "اليوم" الذي نريد تنزيل مفهوم اليساري في صلة به؟ الزغباني وفي مداخلته التي حملت عنوان "الإبداع و المقاومة زمن السلعنة" أكّد بأنّ هناك تحديدا سالبا "لليوم" باعتباره زمن ما بعد سقوط الأنظمة الشيوعية الذي يتسرع منظّرو اليمين بمختلف ألوانه في ربطه بانهيار الفكر اليساري ذاته لكأنّ هذا الفكر ليس في جوهره مضادا لتلك "التوتاليراليات" بنفس درجة تضاده مع النموذج الرأسمالي باعتباره النظام المتأسس على مصادرة مفادها أن الشيء الكوني الوحيد هو المال موضّحا بأنّ هذا "اليوم" أيضا هو يوم الطرق السيارة للمعلومات ويوم الاقتصاد الخدماتي الاستهلاكي المعولم ويوم الذاتوية المنمطة والتكرارية وكذلك يوم التعبيرات العنيفة والاستلابية عن الهويات القومية والدينية. ولكنه أيضا وعلى جهة الإيجاب يوم المعاودة المبدعة لطبيعة النضالات اليسارية ولكيفيات تصورها وإنجازها بعيدا عن منطق الهرمية الحزبية التي تصب رأسا في البيروقراطية المتكلسة، وعن "ديكتاتورية البروليتاريا" التي تستحيل حتما إلى ديكتاتورية وكفى. كمال الزغباني أكّد بأنّه لم يعد بإمكان اليساري ادّعاء امتلاك حقيقة مطلقة أو الزعم بإمكان تسطير سبيل كونية لخلاص أوحد للإنسانية أفرادا وجماعات ولم يعد المطلوب هو "إنجاز الثورة" أو التباكي على واقعة كون الثورات تؤول في غالب الأحيان إلى كوارث بل إن علاقة الناس بالثورة في رؤية اليساري اليوم هي، كما يؤكد دولوز وغواتاري، علاقة صيرورة وصيران. كيف يصير الناس ثوريين؟ ولكن أيضا كيف يمكن لحركة ذات بواعث ثورية أن تنقلب تنظيما هرميا شبه فاشي يمجد الزعيم الأوحد ويقيم محاكم ويمارس إقصاءات باسم "نقاء" إيديولوجي مزعوم أو باسم "خط" أو "صراط" حزبي تنظيمي لا ينبغي الزيغ عنه؟ من ثمة جاءت الأهمية القصوى لمفهومي الحركة والشبكة (أو "الجذمور") في تعريف اليسار اليوم، فاليسار حركة وحراك وليس حزبا، لأنه متعدّد تعريفا وغير قابل لأن يختزل في تركيبة هرمية منتهى أمرها الاستيلاء على الحكم أو ممارسة السلطة على اختلاف معانيها وأصعدتها. واليسار شبكة أو جذمور أو نجم بمعنى أنه التقاء فرادات متباينة ومبدعة في آن وليس معجنة تنتج كيانات رقمية متماثلة.