باحت إذن جريمة قتل المناضل شكري بلعيد بجزء هام من الغازها وباتت الجهة التي تقف وراءها شبه معلومة. إذ يبدو اليوم شبه مؤكد فالمفاجآت تبقى رغم كل شيء واردة ان مجموعة من «مجانين الرب» كما توقعنا في افتتاحية لنا غداة عملية الاغتيال هم الذين يقفون وراءها فقد كانت العملية حاملة منذ البداية لتوقيع واضح ولبصمة جلية. فعندما يطغى الخطاب التهييجي التجييشي على كل الأصوات الاخرى وعندما ترتفع فتاوى التكفير والقتل من اعلى المنابر في المساجد وفي الساحات العامة (1) وعندما تعتبر قوانين البلاد.. «قوانين الجاهلية» (2) وعندما توصف قوات الجيش والشرطة ب»الطواغيت» (2) وعندما يضرب المفكرون والفنانون والفلاسفة ويهانون في المحافل العامة وعندما يتم التسامح مع الدعوات لتكوين أمن مواز... فقد دعا سيف الدين بن حسين المعروف بكنية «أبي عياض» في أكتوبر 2012 إلى «تشكيل لجان لحماية أعراض وأموال ودماء شعبنا في صورة حدوث بعض القلاقل والفوضى في البلاد». عندما يحدث كل هذا دون محاسبة أو مساءلة رغم تحذيرات جهات عديدة من بينها نقابات الأمن والحرس التي أكدت أن بعض الأطراف تسعى لتكوين شرطة موازية. فإن الانتقال من التنظير والتهديد إلى التنفيذ يحصل لا محالة، وهو ما عشناه بمقتل لطفي نقض بتطاوين ثم بمصرع شكري بلعيد في العاصمة وبالاعتداءات المتكررة التي وصلت في أحيان عديدة إلى حد القتل على أعوان السلطة التنفيذية من أمن وحرس. وليس في الأمر ما يستغرب، بل يكاد يكون معادلة رياضية محسومة النتائج مسبقا. فحالة الانفلات على كل الواجهات، التي خلنا أن انتخابات 23 أكتوبر وانتصاب المؤسسات الشرعية ستخلصنا منها، تفاقمت وتعاظمت فكان أن تفاعلت الأطروحات التبسيطية، البدائية primaires للحركات السلفية واختمرت لتجلب إليها خليطا من المهمشين والمنحرفين مما دعا علي اللافي مستشار وزير الشؤون الدينية للقول في أوت 2012 «الأمر الخطير هو ظهور السلفية المنحرفة وهي مجموعة من المنحرفين يتخفون وراء اللحي ويسيطرون على المساجد لتأمين تجارتهم في المخدرات والتهريب» إلا أن الوعي بمثل هذا الخطر بقي محدودا جدا فراشد الغنوشي أكد تأكيد الواثق من نفسه في حديث لجريدة لوفيغارو في أفريل 2012 في خصوص السلفيين «لا أعتقد بوجود تهديد ارهابي... غالبيتهم متشددون ولكنهم يرفضون العنف» !! وقد شاطره في نفس النظرة رياض الشعيبي عضو مجلس الشورى لحركة النهضة بما أنه رأى أن «الإعلام يريد زرع بذور التشاحن بين النهضة والأطراف الإسلامية الأخرى». إن الوقت قد حان لاستخلاص دروس مما حدث لانقاذ ما يمكن انقاذه وحتى لا يتوسع الفتق على الرتق فما حدث ويحدث حاليا يهدد المسار الانتقالي برمته، بل البلاد أصلا وإن أهمّ درس هو حتما أن ما حدث في هذا المجال وغيره انما هو نتيجة طبيعية ومنطقية لتخلي السلطة عن احدى مهامها الرئيسية وهي الحرص على علوية القانون وانفاذه على الجميع دون أي تراخ ودون ادنى ميز أو تمييز مما شجع ويشجع اليوم الاستعداءات بكل انواعها وأحجامها وأشكالها من دعوات للعنف والقتل الى الاعتداءات على أدوات الانتاج ومقرات السيادة وقطع الطرقات. فقد غاب عنها وعن المعارضات ايضا، ولنفس الاسباب تقريبا شعبوية وانتخابية ان الدولة الديمقراطية هي دولة سيادة القانون بامتياز والنظام والانضباط، فالدكتاتوريات تكتفي بأن تحمي نفسها أما الديمقراطيات فتحمي مواطنها مهما كانت مشاربه وانتماءاته لأن أمنه من أمنها. ◗ جمال الدين بوريقة (1) صدرت دعوات بالقتل في عدد من التظاهرات العامة ضد اليهود خلال مظاهرة سلفية في مارس 2012 وخلال زيارة اسماعيل هنية لتونس وضد قايد السبسي في ماي 2012 وضد شكري بلعيد في المساجد في الفترة التي سبقت قتله. (2) أبو عياض: في فيديو على الفايسبوك في اكتوبر 2012