هل يكفي أن ينفي قادة حركة النهضة أي علاقة للحزب بنزيف دماء الشباب التونسي في بلاد الشام بدعوى الجهاد؟ وهل تكفي كل التبريرات لمن تصدّر المشهد السياسي واختار تحمّل المسؤولية عن وعي للتنصل من المسؤولية السياسية والأخلاقية والإنسانية التي باتت تؤرّق التونسيين و تحرق أفئدة الأمهات؟ الحقيقة المرّة اليوم أن في تونس شبابا اشترك في صنع ثورة كان يحلم أن تغيّر واقعه وتحقق أحلامه قبل أن يستفيق على واقع أن ثورته باتت تسرق منه فلم يجد، وللأسف، العديد من هؤلاء غيرالانتحار بين نيران المعارك الضارية في سوريا أو حرقا على قارعة الطريق بدافع اليأس والقنوط، أو كذلك بدافع الهروب من الواقع... ولعل في تواترالاخبار اليومية عن جثث أبناء تونس المحترقة هنا أو هناك ما يستوجب أكثر من أيّ وقت مضى المصارحة بما يحدث، ولكن أيضا المسارعة بالكشف عن محرّكي ومموّلي تلك الشبكات التي اختارت التدثر بالدّين واستغلال المنابر والمساجد للتأثيرعلى فئة من الشباب المقهور وترسيخ ثقافة الجمود والتبشير بالموت والانتحار لديهم بديلا عن ثقافة الحياة والإبداع والبقاء... ولاشك أن الوفاء لروح الشهيد شكري بلعيد اليوم في ذكرى الاربعينية ولكل شهداء الاستقلال وشهداء الثورة الذين تطيّب تراب تونس بدمائهم يستوجب وقف النزيف الذي يفترض اليوم لزاما على كل مسؤول تجاوز لغة الوعود والأقوال والانطلاق الى العمل والإنجاز بما يمكن أن يحيي الامل في نفوس كل فئات المجتمع الذي أصابه الإنهاك والإحباط ويؤسّس بالتالي لأرضية تساعد على استعادة الثقة المفقودة بين الجميع. من هذا المنطلق وجب الاعتراف بأن مسؤولية دماء شباب تونس ليست حكرا على أصحاب السّلطة ولكنها مسؤولية مشتركة لا يمكن استثناء بقية الأحزاب والحركات المعارضة على الساحة السياسية بمختلف توجّهاتها منها، كما المجتمع المدني بكل قواه والاعلام الذي يتعين عليه أن يكون عين الرقيب الكاشفة للحقائق ولكل ما يمكن أن يهدد مسارالانتقال الديموقراطي في البلاد... لسنا نكشف سرا اذا اعتبرنا أن في نتائج التصويت بالمجلس التأسيسي على حكومة السيد علي العريض الأسبوع الماضي، التي حازت بأغلبية مريحة، ما يدعو الى استفاقة الاذهان ويحتاج الى أكثر من وقفة تأمّل من جانب المعارضة حتى لا تظل على هامش المشهد في هذه المرحلة الحسّاسة. لقد أكدت نتائج التصويت على الثقة أنه لا وجود لتحالفات دائمة أو عداوات دائمة في قاموس السياسة وأن لعبة المصالح قد تجعل عدو الأمس حليف اليوم وأن الامر يتوقف عند نباهة واستعداد كل طرف على قراءة المشهد وأخذ العبرة من الاحداث، و يبدو حتى الآن أن حركة النهضة، الحزب المهيمن على تركيبة الترويكا، قد أدركت هذا الامر وفهمت أصول اللعبة بعد أن أدركت حجم الخلافات والانشقاقات لدى حليفيها سواء تعلق الامر بالمؤتمرأو بالتكتل، وهي حقائق لم تعد خفية منذ أن أصبح المؤتمر مرشحا ليكون "مؤتمرات" والتكتل "تكتلات". وهذه رسالة أخرى حملتها نتائج التصويت على الحكومة القديمة-الجديدة التي خلفت حكومة الجبالي بكل ما يمكن أن توحي اليه تلك النتائج من انصراف وحرص لحركة النهضة بين الكواليس لاستباق الاحداث والبحث، ربما، عن حلفاء جددا استعدادا لأي معركة انتخابية جديدة، وهو أمر مشروع وضروري لأي حزب سياسي لديه حد أدنى من بعد نظر والرغبة في البقاء في مواقع الريادة في المشهد السياسي مع قدرة على إخفاء ما يعتريه من اهتزازات وصراعات داخلية وانسحابات أيضا... لقد فهمت النهضة اللعبة وعلى المعارضة داخل التأسيسي وخارجه بما في ذلك حركة نداء تونس - التي لم تجانبها الرياح - أن تدرك اليوم أن نجاح المسار الانتقالي يستوجب خلق توازن في المشهد السياسي لن يتحقق الا بتأجيل الاختلافات وتوحيد الصفوف والخيارات من أجل تكريس مبدإ التداول السلمي على السلطة وإنقاذ أهداف الثورة بوجود أرضية مهيأة لاستمرار التجربة الديموقراطية ونجاحها... ان مسؤولية المعارضة في دفع التجربة الديموقراطية في البلاد تحتم عليها اليوم أن تكون في الموعد وأن تبادر الى تخطي العقد التي تحاصرها وأن تجعل من الوفاء لدماء الشهداء البوصلة التي تقودها في رسم تحركاتها وتحقيق أهدافها التي لن يكون لها معنى طالما استمر نزيف دماء الشباب التائه في سوريا وطالما بقي في تونس شباب يُدفع الى الانتحار حرقا بسبب الفقر والظلم والتهميش، وطالما غابت الشعارات التي حملتها الثورة في تحقيق الحرية والعدالة والكرامة...