كان أول معرفتي بجريدة «الصباح» في بداية الستينات من القرن الماضي. لم أكن في ذلك الوقت، من قراء الجريدة، بل كنت مكلفا، باقتنائها لصالح خالي(شقيق جدتي)المدمن على قراءتها، بمفرده أو مع صحبه. لقد كان خالي ( محمد الأسود)،من قدماء المساجين السياسيين، حيث سجن لسنوات طوال، صحبة العديد من متساكني بلدة قبلي، بسجن غار الملح ببنزرت، بعد أن عذبوا بقبلي وحكم عليهم أحكاما قاسية، بمدينة صفاقس، وصل بعضها إلى السجن المؤبد... كما دمرت بيوتهم وشردت عائلاتهم واعدم ما لا يقل عن ثلاثة مواطنين من المنطقة. وقد هزت تلك الأحداث مشاعر احد المواطنات، فأنشدت: قلبي محروق على دار القاضي والسّوق(1) بَنْيَة زَرّوق(2) وإصغاره قِعْدو طِيشانْ رِِِنّي يا طيّارة ألمان(3) رِنّي يا طيّارة ألمان وقد تكون التهم الموجهة لهؤلاء، تعاطفهم مع الحركة الوطنية واحتكاكهم بالزعيم بورقيبة، أثناء نفيه بمدينة قبلي الحالية، إضافة إلى تعاطف جهة نفزاوة مع الألمان، أثناء الحرب العالمية الثانية واكتشاف هؤلاء لمخابئ سلاح المستعمر الفرنسي، المخبأة تحت الأرض قبالة مقر المقيم العسكري الفرنسي، في ذلك الوقت، والمسمى ( بيرو عرب) بمدينة قبلي. كنت،في بداية الستينات، صبيا، أزاول تعليمي بمدرسة (بوزقندة) الابتدائية، الكائنة بمدينة قبلي الحالية، والتي تبعد عن بلدة قبلي القديمة التاريخية، بما يقارب الثلاثة كيلومترات... أقطع تلك المسافة، يوميا، لأجلب جريدة الصباح، التي تحملها على ظهرها، حافلة المقاوم،(الساسي الاسود)، الصغيرة، السوداء اللون والقادمة من مدينة قابس..وقد أعود، أحيانا ، في ساعة متأخرة من الليل، بخفي حنين، إذا ما تعطلت الحافلة الصغيرة، لسبب أو لآخر... وكنت أعود ، قاطعا تلك المسافة، وسط غابات النخيل الكثيفة، الغارقة في ظلام دامس، وسط صمت رهيب،لا يعكره، سوى صدى صوت جدتي القادم، من بعيد، وهي تحث الخطى لتلتحق بي ونعود سويا، إلى حضن قريتنا النائمة بين أحضان غابات النخيل... عندما يتسلم خالي، الجريدة، يبدأ، مباشرة، بتصفحها، في انتظار صلاة العشاء، التي تقام بزاوية الولي الصالح (سيدي عبد السلام) الحارس لأحد أبواب قريتنا، من جهة مدينة قبليالجديدة ، التي أسسها المستعمر الفرنسي...وتحتوي قريتنا على عديد من الأبواب، وهي شاهد على تاريخ طويل، حافل بالانتصارات والانكسارات. ويذكر التاريخ صمود القرية الأسطوري، أمام جحافل جند باي تونس، القادمة لتأديبها، لأنها أجارت ابن قبيلتها الشيخ غومة المحمودي(4)، المطارد من باي تونس، بتعليمات وأوامر من الباب العالي، الرامية إلى اسر او قتل ذلك الثائر الطريد، الذي هز مضجع الخلافة العثمانية... مباشرة بعد صلاة المغرب، وفي ليل سرمدي إلا من ضوء قنديل، تتحلق مجموعة المصلين حول العم (بلحسن)، الأسمر اللون والفصيح اللسان، صاحب الصوت الجهوري، الذي يشرع في قراءة مضمون الجريدة ،على مسامع الحضور المتعطشين والمندهشين، باعتبار الصباح، النافذة الوحيدة المطلة من العالم، على تلك القرية النائية،المرمية بين احضان النخيل، في أقصى جنوب غرب تونس. ويعد على الأصابع، عدد من يحسنون القراءة في ذلك الوقت. أما المذياع فلم يظهر الا في اوائل الستينات بمقهى عمي حمادي، شقيق المرحوم الوالد. اما مراسل جريدة الصباح منذ الستينات فهو المربي الفاضل السيد الهاشمي بنصوف، متعه الله بالصحة وجازاه على ما بذله، عقودا، للنهوض الثقافي بالجهة. كانت جريدة الصباح لا تبارح خالي محمد الأسود، فهي على الدوام، مخبأة داخل سترته...فحالما يعود إلى حقله، قادما من مدينة قبليالجديدة، ممتطيا حماره الشرس الأشهب المحمل بالأسفار التي اقتناها مقابل ما باعه من أنواع الخضر والغلال للمسلمين واليهود، يشرع فورا في استكمال تصفح جريدته التي جلبتها له مساء اليوم السابق، واضعا نظاراته البيضاء، تحت ظل دالية، مستلقيا على ظهره فوق رمال صفراء ناصعة، حملتها مياه الري في دورات مائية سابقة... ثم تواصلت رحلتي مع جريدة الصباح، بعد أن نشرت فيها بعض الطرائف، وذلك لاول مرة. كان ذلك،في أواخر الستينات، وانا تلميذ بمدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين بتونس العاصمة. وقد سعدت كثيرا بذلك الانجاز في تلك الفترة . ثم نشرت في الثمانينات مقالا متعلقا بالتحديات المحدقة بالمائدة المائية بنفزاوة، رفضت نشرها صحيفة يومية مشهورة، ثم تراجعت بعد أن نشرتها جريدة الصباح، فأعادت نشرها من الغد، مما يعطي صورة واضحة العقلية المريضة المتغلغلة في هذه الصحيفة إلى يوم الناس هذا ونشرت منذ ما يقارب ست سنوات، مقالا حول الإسعاف في شهادة البكالوريا، وذلك، تفاعلا مع مقال لمحرر الجريدة ، الذي انتقد مقاييس الإسعاف، التي أفقدت هذه الشهادة ما كانت تتمتع به من ثقة بمشارق الأرض ومغاربها. وقد احدث ذلك المقال رجة بدائرة بن عروس، كادت أن تؤدي إلى رحيل مديري المباشر، لأنه مكنني من تفاصيل نتائج الباكالوريا بمعهده التي دعمت بها المقال المذكور. وتواصلت الرحلة مع هذه الصحيفة العريقة بالبلاد التونسية،التي حافظت في اشد الأوقات على حد أدنى من المصداقية، متحاشية، في كل الظروف، هتك الأعراض والتشهير بمن وقفوا ضد السلطة التونسية المتشددة، عكس عديد الصحف السيارة، التي انخرطت في هتك الاعراض،طمعا تارة، وخوفا أوقات أخرى . وتتواصل الرحلة... الهوامش هو الشيخ القاضي، احد اعيان بلدة قبلي الذي اعدم وهدم منزله(1) ناصر بورقيبة خلال منفاه بقبلي، هدم مسكنه وشردت عائلته(2) المقصود طائرة الالمان،المحلقة، اثناء الحرب، وتعاطف الاهالي معها، نياكة بالمستعمر الفرنسي(3) تم اعداد جيش من المحلة للقبض على الثائر الليبي الشيخ غومة المحمودي، تحت قيادة قائد المحلة محمد خزندار. فوقعت معركة يومي 14و15 سبتمبر 1857، حيث تم الانتقام من الاهالي الذين هزموا المحلة في جولة اولى. وقد تم في الجولة الثانية القتل والسبي وهدم معظم الدور وتهجير السكان ومصادرة الاموال وبيع واحتها المصدر الوحيد للرزق. وتعرف هذه الحادثة ب(خراب قبلي)(4)