- طالعتنا الصحف الإيطالية عقب اختيارالكردينال الأرجنتيني «خورخي ماريو بورغوليو» على رأس الكنيسة الكاثوليكية بخبرمفاده، أن البابا الجديد يُؤْثرالإقامة في محل سكناه المتواضع في بيت القديسة مارتا، بدل القصرالرسولي المنيف في حاضرة الفاتيكان، الذي اعتاد بابوات روما الإقامة فيه. والصورة التي راجت، أورُوِّجت عن البابا «فرانسيس الأول»، أنه جنوبي متواضع في مسلكه وفي ملبسه، وبالمثل في مسعاه الرامي إلى جرّ «الإكليروس» نحو طوبى للمساكين، وطوبى للودعاء، بعد أن باتت الكنيسة مؤسسة ضخمة فخمة، متخمة وثرية، ليس لها شبه بجمع الحواريين الأوائل الذين لا يستكبرون والذين نبّههم معلّمهم (ع) بقوله: «لا تستطيعون أن تخدموا الله والمال» (متى6: 24)، إيمانا منه أنه «لئن يدخل جمل في سمّ الخياط أهون من أن يدخل غني ملكوت الرب» (متى19: 25). لكن الثروة الدنيوية المتراكمة في الكنيسة، والتي غدت وبالا عليها بدل أن تكون نعمة ما قصتها؟ عموما في الكاثوليكية بدأ حديثا تكديس الثروة لتكون للمؤسسة الدينية سندا وعضدا. حصل مع إعلان توحيد إيطاليا وانتزاع الدويلات التابعة لكنيسة روما. فأثناء تجميع المفتَّت في كيان موحد سنة 1871 أبت الكنيسة الاعتراف بالدولة الوليدة. لم تجد الحكومة الإيطالية سبيلا لتجاوزهذه العقبة سوى إصدارقانون «الغوارنتيجي»، أي «قانون الضمانات»، الذي سمح للكنيسة بامتلاك قصور»الفاتيكان» و»اللاتيران» ومقرالإقامة الصيفية «كاستل غاندولف»، كما أقرالقانون حينها منحة سنوية للبابا ولمعاونيه قُدّرت ب 3.225.000 من الليرة، شريطة الاعتراف بالدولة الناشئة، غيرأن البابا لم يلِنْ ولم ينَلْ. لكن حالة الشد والجذب بين الطرفين بقيت على حالها حتى أطلّ «بينيتوموسولين»ي، «رجل العناية الإلهية» كما سمّاه البابا. كانت معاهدة «لاتيران» سنة 1929 منّة من السماء، حازت بموجبها كنيسة روما هبة مقدارها 1750 مليون ليرة بغرض غلق الملف بشكل نهائي. انتهى جزء من تلك الثروة التي تلقاها الفاتيكان من موسوليني في مؤسسة «بروفيما» المالية السويسرية، ولكن جراء الحرب العالمية الثانية جرى تحويل القسط الأوفرإلى موضع آمن، ليُستثمرفي الصناعة الحربية الأمريكية بغرض مجابهة هتلر، ومن جملة المؤسسات التي فازت بهذا الامتياز»رولز رويس» و»يونايتد ستيل كوربورايشون» و»جنرال إلكتريك» و»داوكيميكيل»، وكان المهندس البارزلتلك السياسة المحامي «برناردينو نوغارا». جعلت تلك الثروة الطائلة من الكنيسة صاحبة أكبرملكية عقارية في العالم، ففي روما وأحوازها خُمس المحلات هي ملك لمؤسسات دينية، حيث نجد 23 ألف عقارومساحة ترابية تابعة لها. وقد بات في الراهن من الصعب ضبط، بشكل حصري، أعداد الأملاك. ففي إيطاليا وحدها بلغت العقارات التي تملكها الكنيسة والمؤسسات التابعة لها، خلال العام 2003، 115 ألف عقار، تتراوح قيمتها بين ثمانية وتسعة ملياريورو. نحصي في القطاع التعليمي 8.784 مدرسة، منها 6.228 مدرسة أمومة، و1.280 ابتدائية، و 1.136 ثانوية، و 135 مؤسسة جامعية وشبه جامعية، وخمس جامعات كبرى، وأكثرمن 2.300 متحف ومكتبة؛ إضافة إلى 4.712 مركز رعاية طبية، تنقسم إلى 1.853 مشفى وبيت للمساعدة الصحية، وعشرمستشفيات كبرى، و111 من المشافي المتوسطة الحجم، و1.669 مركزا للدفاع عن الحياة وعن الأسرة، و534 مشفى عائليا، و 399 روضة أطفال، و136 نقطة صحية و 111 مستشفى متوسط الحجم، و674 من الأصناف الأخرى. ومن جانب آخرتملك كنيسة روما 118 مقرا أسقفيا، و 12.314 أبرشية، و360 بيتا مخصصا للجماعات الدينية، وألف ديرمنها ما هو مخصص للذكورومنها ما هو للإناث، و504 من المبيتات يقطن فيها طلاب الدراسات اللاهوتية. أملى تطوّرالاستثمار في العقار، منذ العام 2002، تعيين «الكردينال أتيليو نكورا» مكلَّفا ب»إدارة أملاك الكرسي الرسولي» داخل إيطاليا وخارجها. فقلة من السواح الذين يتوافدون على لندن يعرفون أن محلات «بولغاري» ومحلات المصوغ في «نيوبوند ستريت» موصولة بأملاك البابا، وكذلك المقرالمحاذي لبنك «ألتيوم كابيتال» الواقع عند منعطف شارع «جايمس سكواير» و»بال مال». ففي هذا الحي الراقي في عاصمة الضباب تتركز سلسلة من العقارات التجارية تشرف عليها مؤسسة «بريتش غرولوكس» العالمية لفائدة الفاتيكان. وخلال العام 1983، إبان حكومة بتينوكراكسي، تمت مراجعة اتفاقية «الكونكورداتو» التي تنظم علاقة الفاتيكان بالدولة الإيطالية، فرُفع الحضرعن انخراط رجال الدين في العمل السياسي، وأُلغي أداء الأساقفة القسم كعربون وفاء للدولة الإيطالية. كما جرى استبدال المنحة الشهرية التي تقدّمها الدولة لرجال الدين بعائدات ضريبية تُخصم مباشرة من الدخل الفردي لعموم الإيطاليين، معروفة ب»ثمانية بالألف»، وهي الضريبة نفسها التي نجدها في ألمانيا أيضا، المسماة بال»كيرشينستاور» والعائدة إلى اتفاق عقده هتلرمع الفاتيكان سنة 1933، جرت دسترتها لاحقا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ففي إيطاليا تدعمت تلك المراجعة ل»لكونكورداتو» مع السنوات اللاحقة أثناء عهد سيلفيو برلسكوني، بمنح 15.507 منصب تدريس في المؤسسات التربوية التابعة للدولة الإيطالية إلى الرهبان والراهبات، فضلا عن إعفاء كافة العقارات التي بحوزة المؤسسات الدينية من الضرائب، لكن أمام ضغط الاحتجاجات جرى استثناء الربحية منها. أهّلت هذه الثروةُ الكنيسةَ لتكون رائدة في مجال الاستثمار، في السياحة والعقارات والصحة والتعليم الخاص، حتى إن «الإيكونوميست» البريطانية ذهبت إلى أن كنيسة روما بمقدورها زعزعة الاقتصاد الإيطالي في حال انسحابها من السوق المالية. إذ تحقّق مداخيل السياحة الدينية خمسة ملياريورو سنويا، بعدد حضوريبلغ أربعين مليونا. وفي كافة أرجاء التراب الإيطالي يسهررهبان وراهبات على تسيير 250 ألف سرير، وهوما دفع إلى تحويل العديد من الأديرة إلى فنادق وشقق للكراء. أمام ما وفرته تلك الأنشطة الاقتصادية من ريع، تولى كل من بنك «مورغن» في نيويورك، وأمبروزفي لندن، و»كريدي سويسرا «في «زوريخ»، السهرعلى»سيرالعمليات المالية، فضلا عن بنك روما والبنك التجاري وبنك الروح القدس في إيطاليا. لكن وبرغم الطابع الديني والخيري الذي يلف أنشطة الكنيسة فإن ذلك لم يحل أمام الدولة الإيطالية، وبإيعازمن «لجنة مونيفال» التابعة للمجلس الأوروبي، لحثّ «مؤسسة إيور»، قطب الرحى الاقتصادي للفاتيكان، على الالتزام بالشفافية لدرء تهمة تبييض الأموال، ولم يشفع كذلك في حجز23 مليون يورو مشبوهة المصدر، ولعل آخرمظاهرالتشديد تعطيل كافة أشكال الدفع عبربطاقات الائتمان في حاضرة الفاتيكان خلال مطلع يناير/جانفي من العام الحالي. دول كثيرة تعاني من آفتي الحاجة والفاقة ولكن حاضرة الفاتيكان كثير من معضلاتها متأتية من وفرة النعمة، «ونبلوكم بالشرّ والخيرفتنة وإلينا ترجعون» صدق الله العظيم. أستاذ بجامعة لاسابيينسا في روما