ربما كانت فكرة حصر تاريخ بورقيبة الإنسان والسياسي والمناضل الوطني في متحف ذكية لأنها من شأنها أن تشفي الناس من حنينها إلى زمن بورقيبة وإلى وقت كانت فيه الدولة التونسيّة حديثة النشأة مزهوّة بقدرتها على رفع رأسها بين الدّول. ربما كانت الفكرة جيدة لأنّ الأعناق ملتفتة اليوم إلى زمن كانت الدولة التونسية فيه ذات هيبة وهي هيبة كان قد فرضها الزعيم بفضل هضمه لمفهوم الدولة وبفضل الكاريزما التي كان يتحلّى بها وبفضل الديبلوماسية المحنكة التي كان أرسى تقاليدها وبفضل سمعة بورقيبة الزعيم السياسي بين رؤساء الدول في العالم لكن من الصعب أن نقف في وجه ذلك الشعور التلقائي والرغبة الجامحة عند الآلاف من التونسيين اليوم في الإعتراف للرجل بالجميل والرغبة في القيام بشيء من أجل التكفير عن أخطاء في حق بورقيبة ربما الناس منها بريئة ولكنها تتحمل جزءا من المسؤولية ولو كانت مسؤولية أخلاقية فقط. فالجميع صمتوا في لحظة ما على إهانة الزعيم بورقيبة عندما وقع خلعه وركنه في زاوية ضيقة والتعتيم عليه وتركه يقضي الأعوام الأخيرة من حياته معزولا ومحاصرا. وحتى وإن سلّمنا بشرعية الملاحظات التي تسعى إلى التنبيه من خطورة تضخيم الشخصيات وترفض حصر قدر بلد ما في شخص واحد فإن ذلك لا ينبغي أن يشكك في نوايا الآلاف من التونسيين الذين يريدون أن يعبروا اليوم عن اعترافهم لبورقيبة بجهوده من أجل بناء الدولة التونسية الحديثة. هناك فعلا من تؤذيه هذه المشاعر التلقائية وهناك من يسوءه أن يحتفظ التونسيون بمشاعر ودية لبورقيبة لأنه حتى ذكرى بورقيبة تعيقه في مخططاته التي يسعى من خلالها إلى بناء تاريخه على حساب الآخرين. وقد عبروا على ذلك في عديد المناسبات معتقدين أن المساس من ذكرى بورقيبة من شانه أن يهدم مكانته في قلوب التونسيين وإن كنا نقف يوميا على ضيق الأنفس وشح القلوب عند البعض مما يجعلهم غير قادرين حتى على السماح بان تذكر الناس بورقيبة اليوم بخير، وبورقيبة اليوم يتعرض فعلا إلى محاولات للتقليل من قيمة العمل الذي قام به من أجل تونس فإننا نعتبر ذلك عاديا فلا نبي في قومه. بورقيبة الذي تقر له الشخصيات والدول في العالم بقيمة العمل الذي قام به وخاصة على المستوى الإجتماعي وبالخصوص في مجال تحرير المرأة وفي مجال رفع الجهل ونشر التعليم العمومي وفي مجال الصحة إلخ... هناك في تونس من لا يفوت فرصة دون التهجم عليه ومحاولة إيذائه من خلال تقزيم دوره والتشكيك في كل شيء نسب إليه حتى أن ما قام به بورقيبة وما كان أحد غيره يستطيع أن يقوم به تم التشكيك فيه. ولعلنا وإذ نسجل اليوم شعور التونسيين بالرغبة في تقديم شيء لبورقيبة بعد 13 سنة على رحيله حتى ولو انتظروا الثورة الشعبية كي يقوموا بذلك فإن الذنب ليس ذنب بورقيبة عندما تصبح ذكرى وفاته مناسبة وطنية يقتنصها التونسيون لبث رسائل إلى زعماء تونس الجدد. الذنب ليس ذنب بورقيبة عندما يجد التونسيون أنفسهم يقارنون بينه وبين من تصدروا حكم البلاد اليوم. الذنب ليس ذنب بورقيبة عندما يضطر التونسيون اليوم إلى النبش في الماضي بحثا عن الحلم الذي يكاد يضيع وفي لحظة أصبح فيها الحاضر محيرا والمستقبل لغزا، ابحثوا عن الأسباب خارج شخصية بورقيبة. رحل بورقيبة وأصبح ذكرى لأن الرجال ومهما كانت قيمتهم يمضون والحياة تتواصل إلى أجل غير مسمّى لكن من الصعب أن نختزل بورقيبة وان نحبس ذكراه ولو كان في قصر من الرخام، فمكانته طبعت في الأعماق.