- انجلت المواجهات الّتي رافقت الثورة المباركة ثم المصادمات التي تلتها وحتى الاغتيالات التي تخللتها عن استشهاد العدد العديد من الأبطال المكافحين من الأفذاذ ممّن سقوا ومازالوا تربة وطننا الزكيّة بدمائهم الطاهرة وواصلوا كتابة تاريخنا الحديث بأنبل معاني التضحية وأجلّها نسجا على منوال سابقهم من الشهداء عبرالتاريخ الحديث ورسموا لخلفهم من الأجيال الصاعدة أمثلة من روعة الإيثارومزايا الاستشهاد ممّا يصقل أذهانهم ويطهّرعقولهم من داء التنكروعوامل الجحود تجاه الوطن العزيزوممّا ينزع من قلوبهم أسباب الخلاف وبذورالشقاق ومن ضمائرهم أمراض الجبن وأدواء الانحطاط . فإذا كنّا اليوم ننعم إلى حدّ ما بتلك المكاسب وإن كان ذلك مع بعض التململ أوالتعثروالذي أدى أحيانا إلى حد التردّي فإنّنا مدينون جميعا بالمحافظة على هذا التراث الّذي هوثمرة جهاد أمّتنا وعرق جبين شعبنا الأبيّ كما يعدّ ذخروجودنا وكسب أبطالنا فالمحافظة على تلك الثروة الى جانب محافظتنا على مقوّماتنا الأساسيّة وقيمنا الثوريّة تعدّ من الأوليات الّتي تدفع فينا ما يستجيب لنداء شهدائنا، لنداء شهداء تونس الأبرار؛ إذ بات واضحا أنّ المكاسب الوطنيّة جهد التضحية وعنوان الفداء وأنّ المقوّمات الأساسيّة من حريّات وضمانات تعد ّ سندا ودعامة كما أن" الغيرة الوطنيّة" تكسب الكرامة وتنشئ المجد وتحفظ العز. دلالة رمزية كبيرة ثم بالإمكان ان نعتبريوم التاسع من أفريل من كل عام عيداً كذلك لشهداء الثورة المباركة وبالتالي لم يعد هذا العيد خاصاً بالحادثة ذاتها معركة من المعارك الدامية لتحريربلادنا وملحمة من ملاحم أمّتنا الباسلة بل يتعداها لحمل في طيّاتها دلالة رمزية كبيرة تجاوزت الزمان والمكان في تاريخها، لتجعل من الشهادة ذاتها مشروعاً تحرّرياً وطريقاً لأجيال هذه الأمة تسيرعليه عند الضرورة كي تحافظ على كرامتها وعزّتها وترسم ملامح مستقبلها ونهضتها، لاسيما وأن الأعداء من بني جنسنا بالدّاخل والخارج يتربّصون بنا بكل طريق ويكيلون لنا الكيل كيلين وينصبون لنا شتى المكايد وربما حتى المشانق بالساحات العمومية ثم يحاولون بكل ما أوتوا من جهد وبكل ما ملكوا من قوةٍ لانتزاع هذه الكرامة والعزة ، وسد الآفاق أمام هذا المستقبل المنظوروما يحمله من بشائرالخيروالبركة. وتعد التضحية عطاء لا ينتظر الجزاء يقدّم على مائدة الأمل في سبيل هدف سام وهي إيثارلا يعادله إيثار؛ لهذا لاتزال الصفة التي تدفع المرء إلى الفداء الموصل الى مرتبة الشهادة وستظل الشهادة وسيبقى الفداء أسلوب حياة بالنسبة إلينا طالما أننا نؤمن بوطننا وعزّته ونناضل من أجل كرامته وتحرّره وطالما أننا نؤمن بأن «الشهداء هم أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر» وأن الله عزّوجلّ قد كرمهم بقوله:(ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) - سورة آل عمران 169- "ثقافة الاستشهاد" نعم لقد تجاوزعيد الشهداء مناسبته التي خصّص لها ليتحول ربما إلى ثقافة ، هي" ثقافة الاستشهاد" هذه الثقافة التي أثبتت جدواها عملياً عند مقاومة المحتل الغاشم أوفي مواجهة الحاكم المستبد داخل حدود البلد الواحد ومن قبل الشعب الواحد إلا أنها في المقابل تعد من الأمورالتي لا نستصيغها البتة ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نقبلها عندما يتم التغريرببعض الشبان وحتى الشابات من اجل التحول" للجهاد"إلى سوريا أو بالأحرى لاستهداف بلاد عربية وإسلامية ذات سيادة كانت مازالت تقف حجرعثرة أمام الكيان الإسرائيلي المحتل لأرض فلسطين الحبيبة تربطنا بها علاوة عن ذلك علاقات متينة ضاربة في القدم وتقيم فيها جالية تونسية معتبرة . لم يكن آخر نداء جموع الشهداء البتة عندما ينكل بهم أو تزهق أرواحهم وقد يكون آخرهمهم عند إطلاق صيحات التعذيب وزفرات العذاب أوعند تجرّع طعم الهجرة القصريّة المريررضوخا لمصالح وقضاء لمآرب وخدمة لأجندات بل كانت استجابة لكرامة الوطن وتحقيقا لعزته وخدمة لشعبها والّتي تتجسّم في كتلة هائلة من العواطف والمشاعريبرهن عليها في الأواني الأخيرة الدّعم الدّولي والمدّ التضامني المنقطع النظيرالذي رافق قيام الثورة وتواصلها وما ذلك الهتاف داخل الكونجرس الأمريكي عند الإشادة بالثورة التونسية وبشعبها من طرف الرئيس الأمريكي براك اوبما لخيردليل يساق وأدمغ حجة تقام والّذي مازالت أصداؤه الهائلة محل اهتمام ومتابعة لدى مختلف عواصم العالم الحرّ. غذاء فكري للشباب إنّ الّذين يبحثون عن القيم السامية والأمثلة الرائعة أوحتى الفلسفات الخلابة والمذاهب البرّاقة لن يجدوها لدى من يحترفون السّياسة للاتجاربالوطن وبالدّين ولا لدى الذين ينتصبون للدعوة أو للإفتاء لأغراض دنيوية خسّيسة ولا البتة لدى الذين يشهرون السيوف للقتال في وجوه الذين يختلفون عنهم في الرأي أو في العقيدة من أبناء الوطن الواحد بل عليهم أن يستمدّوها من واقعهم التاريخي وظروفهم الوطنيّة وملابستهم السياسيّة ما يغذّي مطامحهم ويرضى طموحهم وتصبح بالتالي غذاء فكريا للشباب ومادّة ثمينة لكلّ باحث؛ وعموما مثلا يحتذى لكلّ مريد فبهداهم نهتدي وعلى طريقتهم نسيرفإنّ الوقائع والأحداث مصدرلجميع الفلسفات والسياسات إن تختلف إلى حدّ ما المقاربات وتتباين المناهج بحسب الظروف والملابسات إلا أن أصدقها وأقربها للحقيقة ما صدرمنها عن واقعها المشاهد وأحداثها المعاشة وإلاّ فهي نظريات عقيمة لا تثبت عند التطبيق وآراء تتبخر عند الاختباروتتآكل عند الاحتكاك بالواقع. في صميم العملية الاستشهادية فعلى الباحثين والملاحظين وعلى رجال السياسة والقانون وأرباب المال والعمل منّا أن يستهويهم واقعنا الّذي فيه نعيش والذي معه نتفاعل وعلى ضوئه نتعامل من دون أن يشغل بالهم ويحبط عزائمهم وضع متقلب قابل لاستقراروواقع متغيرلكن نحوالأفضل ليس عليهم أن ينحرفوا به عن السبيل القويم الذي ارتؤوه أنسب السبل وأكثرها واقعية وقابلية للتطبيق على ضوء معطيات تاريخية وحضارية ، وخيارات سياسية واستراتيجية يكون توافق عموم الشعب حولها الخيارالأكثر شيوعاً وهذا يصبّ في صميم العملية الاستشهادية ومن خلالها خدمة الوطن ككل ومازال هناك من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ممن يصمّون آذانهم عن نداء شهداء تونس الأبراروفي ذلك لعمري نكران للجميل وكفران للنعمة وتعدّ من الظواهرالتي انتشرت واستفحلت وتعدّدت أشكالها وألوانها ليدل على شذوذ كبيرفي العقليات السائدة وانحراف خطيرفي المسارات المتبعة ممّا اكتوت بلوعته كرامة البلاد وبلفحاته عزّة الوطن وأجيال كثيرة ولدهو طويلة... ومازالت...وممّا عمل الشهداء من خلال أحلامهم ومواقفهم وتوصياتهم الأخيرة على التخلّص من علله ورواسبه لتنجلي تضحياتهم المقدّسة على وحدة قويّة صمّاء وعلى سيادة وطنيّة تامّة وعلى مسارديمقراطي عتيد ومتجدّد .