معطيات جديدة بخصوص منتحل صفة صفة مسؤول حكومي: الاحتفاظ بكاهية مدير بالقصرين    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    المسرحيون يودعون انور الشعافي    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من شعر الجهاد في الأدب التونسي الحديث
صالح بن عبد الجليل
نشر في الشعب يوم 28 - 04 - 2007

المقصود بالأدب التونسي الحديث هنا ما أنتجته القرائح التونسية من شعر ونثر في القرن 20) في حياة كل الشعوب كما في حياة الافراد ايام مشهودة لها توهّج خاص وتميز واضح كاليوم التاسع من شهر افريل 1938 فانه عند الشعب التونسي بأكمله يمثل ذكرى خالدة لحوادث دامية واستشهاد صادق في سبيل الله والوطن، علما بأن الوطنية الصادقة والجهاد في سبيل الله يكملان بعضهما فهما وجهان لعملة واحدة.
ولذلك ورد في الاثر (حب الوطن من الايمان) والا لما دمعت عينا المؤمن الاول نبيّنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو يخرج من موطنه ومسقط رأسه مضطرا وباحثا عن النصر لدعوته السمحة وشرعه القويم، ان يوم 9 افريل 1938 الموافق 1356 ه كان مسرحا لحوادث مفزعة وفواجع مؤلمة خاضها الشعب التونسي في شوارع العاصمة بصبر وايمان لنيل احدى الحسنين: النصر على الاعداء أو الاستشهاد في سبيل الله ضد قوى البغي والاستبداد والتسلط الاستعماري البغيض وحين يجدد شعبنا الكريم هذه الذكرى الخالدة ويترحم على شهدائه البررة الذين سقطوا في ميدان الشرف منادين بالحرية وحياة العزة والكرامة في ظل حكومة برلمانية عادلة ورشيدة لا ينسى في هذه الذكرى الأليمة ما وقع لفلسطين الجريحة في مثل هذا اليوم من عام 1948 وهي مذبحة «دير ياسين» الشهيرة على ايدي شذاذ آفاق العالم ومجرمي الدنيا قاطبة الذين لعنهم الله والناس أجمعون (لُعِنَ الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) المائدة 78 كما لا ينسى النكبة الكبرى لبلاد الرافدين في يوم 9 افريل 2003 يوم سقطت بغداد الباسلة في يد الطغاة المجرمين من حكام امريكا وبريطانيا الذين أخذتهم العزة بالاثم فنسوْا بل داسو كل حقوق الانسان ومبادئ الحرية والديمقراطية التي يدعونها في بلادهم، فرحم الله أرواح كل الشهداء والمجاهدين الصادقين في ارض العروبة والاسلام الذائدين عن دينهم وعرضهم واستقلال أوطانهم (ولله العزة ولرسوله وللمؤمين ولكن المنافقين لا يعلمون) 8 المنافقون (ولا تحسبن الذين قتلوافي سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون...) 169 آل عمران. (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) ابرهيم 42 ولما كان الأدب عموما، والشعر على وجه الخصوص يمثل مرآة حياة الأمة وسِفْر تاريخها وسجل احداثها وامجادها، ذلك ان الشعر البديع هو من الشعور الصادق الذي يغمر الفؤاد فيهزه سرورا أو حزنا ورغبة أو رهبة، وحماسا وفخرا...
وهذا هو الشعر المملوء حكمة وصوابا والمطرّز عبرا وأمثالا وذلك هو الشعر الذي عناه سيد البلغاء ورافع قدر الشعراء المؤمنين عليه افضل الصلاة والتسليم حين قال: (إن من الشعر لحكمة) والحكمة ليست بالامر الهيّن اليسير او المتناول للجميع (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) 269 البقرة، ورحم الله أبا القاسم الشابي نابغة الادب التونسي الحديث وشاعر النخبة الزيتونية الاصيلة في هذا العصر حين قال:
«شعري نفاثة صدري
إن جاش فيه شعوري
لولاه ما انجاب عني
غيم الحياة الخطير
ولا وجدت اكتئابي
ولا وجدت سروري
به تراني حزينا
أبكي بدمع غزير
به تراني طروبا
أجر ذيل حبوري... الخ
من ديوانه الوحيد الذي جمعه بنفسه وباغتته المنية قبل طبعه وبعد ان سماه (أغاني الحياة) (ت 1934) ولما كان الشاعر الصادق هو من يمثل قلب الامة النابض وصوت الشعب الصارخ يصدع بشكواه ويحمل آلامه وآماله ويثيره ضد الظلم والطغيان وفساد الاوضاع حين يصدر نغماته التي تحرّك السواكن وتحيي في النفوس أحلامها العذبة وأمانيها الجسام فتنبعث في سبيلها غير عابئة بشيء فيحق الجهاد ويحلو الفداء وتهون التضحية فتكون النتيجة انتصار الحق المغصوب على الباطل الزهوق لأن هذا الاخير يعيش ويتعاظم في غفلة الاول عنه، لما كان كل ذلك كذلك، كان حتما وجود علاقة عضوية بين الشعر التونسي خلال المرحلة الوطنية العصيبة وبين الاحساس الحاد بالغضب نتيجة القهر والآفاق الغارقة في (صدام الدم) مع الأوغاد المعتدين ومن ساعدهم من الرجعيين والمنافقين، على ان (صدام الدم) في الكفاح التحريري الوطني التونسي يعود الى اواخر القرن 19 لما انزعج الشعب التونسي المغلوب على أمره من غَزْوِ بلاده واقتحام جند الاستعمار لها من منافذها البرية والبحرية غربا وشمالا وشرقا يحمل الدّمار ويحتل المواقع والسواحل ويروّع الآمنين ويضرب بعنف كل من يقف في طريقه، ويدوس مقومات الامة وهوية الشعب الذي جاء (لحمايته) كما يدعي حتى اصطبغ النضال الوطني بالدم القاني حين ظهر انه الوسيلة الوحيدة للتطهير من رجس الاستعمار وفرض الاستعباد وكان دور مصابيح الهدى ونخبة الامة من احباء وعلماء وشعراء خاصة وهم صوت هذا الشعب وناقوس الخطر فيه ايام اخذت المعركة تحتد وتحتدم، كان دور هؤلاء بارزا فقد كانوا على اتصال وثيق بأهم المواقع والوقائع الدامية والمظاهرات الكبرى بجماهيرها الصاخبة في المواقف المشهودة مثل:
أ معركة الزلاج (1330 ه 1911 م) وهي معركة دامية وقعت بالقرب ومن أجل (مقبرة الزلاج) الاسلامية بالمدخل الجنوبي للعاصمة التونسية بين الجماهير المكدودة التي جاءت محتجة ومتظاهرة ضدّ استيلاء المجلس الفرنسي (البلدي) على تربة الاباء والأجداد ومن فيها من الاولياء الصالحين والزعماء المصلحين وتسجيل ملكيتها العقارية باسم المجلس المذكور ومن أجل ذلك اندفع الشعب في جموع غفيرة هادرة يهزها الحماس الفوار ويدفعها الغضب الشديد لتتمركز بداخل وأطراف المقبرة وعند ذلك قدم أعوان البوليس الفرنسي وحاولوا اخراج الناس وابعادهم عن المقبرة فلم يفلحوا بكل الوسائل فأطلقوا الرصاص فوقع الرد عليهم بالحجارة ثم أتى فريق من اللفيف الاجنبي بالجيش الفرنسي وحدثت اشتباكات خطيرة جرح فيها الكثيرون وسقط ما يزيد عن 35 قتيلا من التونسيين والايطاليين والفرنسيين ولم تكتف السلطة بهذا بل قبضت على عدد كبير اخر حاكمتهم صوريا وحكمت على عدد منهم بالاعدام ونفذت الحكم فيهم شنقا امام الناس وشاع الخبر المفزع فارتفعت اصوات الحق في كل مكان داعية للجهاد ومقاومة الدخلاء المستبدين. وتبحث عن الشعر الوطني فتجده يرصد تحرك الشعب ويبارك نهضته ويستحثه عن المزيد من اليقظة والاندفاع تاركا الخمول والسبات جانبا، فهذا أمير الشعراء من الرعيل الاول في النضال الوطني باليد واللسان المرحوم محمد الشاذلي حزندار (ت 1954) يهيب بالشعب ويدعوه لليقظة قائلا:
طال السُّباب فشأننا استلقاء
فكأنما شلت لنا الاعضاء
إن المنام عن الحياة يدلنا
ناموا ويكفي أنكم أحياء
هذه تاريخ الجدود وكلها
صحف تطيب بذكرها الانباء
لم يكف فخرك بالتليد وانما
تنحو خطى آبائها الابناء...الخ
وفي نفس الغرض ينظم قصيدة اخرى مناديا الشعب:
يا أيها الشعب الكريم تيقظا
هبت رياحك والزمان مواسي
كن في المبادئ صادقا وافتح لها نهج الثبات وأعين الحرس
واضرب بسهمك بين أسهمهم وقل
سهم الحياة يشق قلب اليأس
اما شاعر الشعب المكدود المرحوم سعيد أبو بكر فيعبر عن احساسه ازاء تصلب قوى الاستعمار:
مكانك يا غرب فسوف تحاسب لدى عادل يدري الخفايا ويحسب ولا تجرحن يا غرب للشرف خاطرا
ففي كل يوم للزمان تقلّب
وتأبى شاعرية العالم الجليل والوطني الكريم الرحالة العصامي الشيخ محمد الاخضر بن حسين النفطي الجريدي التونسي الزيتوني تعلما وتعليما وشيخ الأزهر الشريف فيما بعد (ت 1958) فيتوجه الى الشعب المضطهد من مهجره في دمشق قائلا ومذكرا:
ردوا الى مجدنا الذكر الذي ذهب مضاجعنا نوم دهانا حقبا ولا تعود الى شعب مجادته إلا إذا غامرت همّاته الشهبا حياكم الله قومي إن خيلكم قد ضمرت والسباق اليوم قد وجبا
وتتلاحق الاحداث وطنيا ودوليا وجاءت الحرب العالمية الاولى (1914 1918) التي اندلعت بين الدول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وايطاليا وامريكا) وبين الدول المتحدة (ألمانيا والنمسا وتركيا) فبدّلت فرنسا سيرتها مع الشعوب المستولية عليها واصبحت تسلك سياسة اللين والتودد للشعب التونسي واخذت تمنيه وتعده بحقوقه وتقرير مصيره بيده ان حارب معها وعمل على نصرتها في تلك الحرب الطاحنة، ولما كان (المؤمن غرا كريما) شارك الشعب التونسي مشاركة فعالة الى جانب الحلفاء تحت العلم الفرنسي في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل سوى الوعود المعسولة، وفعلا جهزت فرنسا 65 الف مقاتل تونسي مسلم وأخذت 29 الف عامل تونسي في المصانع الفرنسية للعتاد الحربي وغيره، وعندما وضعت الحرب أوزارها في 11 / 11 / 1918 اصبح التونسيون الذين خسروا (12 الف قتيل وأقل من ذلك مفقودين) اصبحوا يتطلعون الى تحقيق الوعد خصوصا ان النصر كان حليف الحلفاء ومنهم فرنسا. وأصبحت فكرة التحرر منتشرة وشروط الرئيس الامريكي (ولسن) رائجة ومنها (حق تقرير مصير الشعوب بيدها)، وبناء على ذلك انبعثت حركة سياسية منظمة تجمعت حول الاستاذ الشيخ عبد العزيز الثعالبي وقررت ايفاده الى باريس لمطالبة مؤتمر الصلح (العالمي) المجتمع بقصر (فرساي) بانصاف تونس حقها في الحرية والاستقلال ولكنه لقي تلدّدا ومماطلة... فأغتنم فرصة وجوده هنالك وألف كتابا قيّما تحت اسم (تونس الشهيدة) نقله الى الفرنسية الدكتور التونسي المقيم هناك أحمد السقا فضح فيه السياسة الاستعمارية الغاشمة بالبلاد التونسية جملة وتفصيلا، وما ان طبع الكتاب وظهر في واجهات المكتبات حتى تجاوز صداه حدود باريس فارتاعت الحكومة الفرنسية وغضبت من هذا الصنيع اذي شوّه سمعة (بلاد النور والمعرفة وحقوق الانسان) كما تشيع بين كل الناس فحاصرت ترويج الكتاب وقبضت على مؤلفه وأرجعته لبلاده مكبّلا حيث قضى في السجن العسكري (9 اشهر) أطلق سراحه بعدها بكفالة مالية، فعلقت انذاك صحيفة استعمارية ساخرة تقول (خرج يطالب بحرية شعبه فرجع فاقد الحرية الشخصية)، وفي هذه الاثناء أعلن عن تأسيس (الحزب الحر الدستوري التونسي) كأول منظمة شرعية رسميا تقود الحركة الوطنية وتنظمها في كامل البلاد على رأسها الزعيم الشيخ الثعالبي (والفضل للمبتدي ولو أكمل المقتدي) وأقبل الشعب التونسي بكل شرائحه على زعيمه يكرمه ويحتفي به (بعد خروجه من السجن) في مآدب عائلية وندوات صحفية قيلت فيها اشعار وقصائد عصماء قالها شعراء بارزون في تلك الحقبة منهم أديب الرعيل الاول من المؤسسين الذي كان دائما شاعر الشعب وشاعر الكفاح الجماهيري ضد الاحتلال الفرنسي كما قال الاستاذ رشيد الذوادي في كتابه (أدباء تونسيون ص 91) وهو المرحوم الشاذلي خزندار الذي أوقف شعره على ما يختلج بأفئدة مواطنيه من عام 1907 الى وفاته 1954 الذي قال في مأدبة أعدها السيد الطاهر آغة في بيته بالكرم احتفاء بإطلاق سبيل عبد العزيز الثعالبي من المعتقل السياسي قصيدة مطوّلة كانت سببا في اعتقال قائلها مطلعها:
أبى الله الا ان تعظم مطلقا
لك الفخر مسجونا لك الفخر مطلقا
الى ان يقول:
تبيت مع الاحساس همتك التي تنادي لمن ناوأك هيا على اللقاء وكم لك فينا من مواقف أثبتت لك الفضل أيا ما تقحمت مأزقا ومن طلب الاصلاح لم يأت منكرا
ومن طلب الانصاف لم يخش مزلقا الخ...
وفي قصيدة اخرى في نفس الغرض:
الدهر دهر والرجال رجال
كل سواء والحروب سجال
ما السجن والابعاد عار إنما
ما العار الا العجز والاذلال
ما حادثات الدهر غير سحابة
وتقشعت فكأنها الأطلال
دون إدراك المجد كل كريهة
فاصبر لها تتحسن الأحول
أما فارس الميدان دون منازع وشاعر الوطنية حقا وصدقا وصاحب الكلمة الثائرة الصادرة من الاعماق والمتأزمة من الوضع المتردي السائد في االبلاد وبالاخص فترة الثلث الاول من القرن 20 التي انطبعت بأدبه بل بثورته الفكرية التي كانت نذيرا من النذر الاولى بالويل والثبور لمن يتجاهل أناة الشعب المقهور الذي يتجمجم في أعماقه ما يتجمع من الصواعق والاهتزازات الجارفة انه ابن تونس البار سليل الثقافة الاصيلة والتكوين الوطني والادبي والعلمي المتين الذي تخرج منه ابن خلدون وابن عرفة وغيرهما من رموز المجد الفكري والسبق العلمي والادبي انه فقيد الشعر الصادق والاحساس الوطني المرهف الذي يستحق به عن جدارة لو أنصف الدهر ان يكون أمير الشعر المتفوق عن كل من سواه في وقته الى الان وهو ابو القاسم الشابي رحمه الله وبرّد ثراه (ت 1934) ان أول ما يعترضك في ديوانه الذي رتّب قصائده بنفسه قبل موته وسمّاه (أغاني الحياة) قصيد تونس الجميلة ومنها:
لست أبكي لعسف ليل طويل
أو لربع غدا العفاء مراحه
إنما عبرتي لخطب ثقيل
قد عرانا ولم نجد من أزاحه
الى ان يقول:
إن ذا عصر ظلمة غير أني
من وراء الظلام شمت صباحه
لقد كان الشابي تواقا ومؤمنا بالحياة الكريمة وبحق شعبه وبلاده فيها لذلك تراه يوقظ في النفوس الثقة الصلبة والعزم القوي الموصل الى الغاية النبيلة رغم كل العقبات المعوّقة لأن الارادة الشعبية العارمة والصادقة من ارادة الله وارادة الله لا تقهر، ولذلك أعلنها الشابي مدوية:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
فويل لمن لم تشقه الحياة
من صفعة العدم المنتظر
كذلك قالت لي الكائنات
وحدّثني روحها المستنير
ويلتفت الى الطغاة المولعين باستذلال واستغلال الشعوب المغرورين بما لهم من قوة وبطش:
ألا أيها الظالم المستبد
حبيب الظلام عدو الحياة
سخرت بأنات شعب ضعيف
وكفك مخضوبة من دماه
يا أيها الحبّار لا تزدري
فالحق جبار طويل الأناه
يغفي وفي اجفانه يقظة
ترنو الى الفجر الذي لا تراه الخ...
وفي قصيدة اخرى تفصح عن وطنية الشابي المؤمن بقضية شعبه المراهن على صدق عزيمته واخلاصه في الجهاد لتحطيم أغلال الهوان والاذلال:
ألا أيها الظلم المصعر خده
رويدك إن الدهر يبني ويهدم سيثأر للعز المحطم تاجه رجال اذا جاش الردى فهم هم
رجال يرون الذل عارا وسبة ولا يرهبون الموت والموت مقدم
وتتعاقب السنون والايام وتتوالى على الشعب الكريم الاحداث الجسام مثل:
ب واقعة سوق الاربعاء (ولاية جندوبة الان) وهي واقعة مؤلمة (بطلها) المستعمر (دومانيقا) الذي مسك بعاملين من مأجوريه التعساء في يوم عيد الاضحى والفداء وبعد ان أشبعهما سبا وشتما أمر بصلبهما في حرّ شمس الشهر الثامن من عام 1922 نحو الثماني ساعات حتى أشرفا على الهلاك وآل الامر لقطع يدك منهما بأحد مستشفيات العاصمة. كل ذلك بدعوى اختلاس عناقيد العنب من المزرعة التي بها بعملا.
ج حادثة المرسى بعدها مباشرة وهي ان جزارا مالطيا متجنسا بالجنسية الفرنسية طالب من أحد حرفائه تقريب شيء كان معلقا بزاوية حانوته وكان موصولا بسلك كهربائي خفي فما إن أمسك الرجل به حتى اهتز والتوى وقضى نحبه في الحال تفكها واستهزاء، وما يشبه ذلك كثير من مظاهر الاحتقار الاستعماري والغربة في الوطن التي كان يتجرعها الشعب بأكمله من جراء النفس العدوانية المتلاحقة مما أنطق شاعر الشعب سعيد أبوبكر (ت 1948) ينقد جمعية الرفق بالحيوان:
جمعية الرفق بالسنورو الديك ماذا عن الرفق بالانسان يلهيك؟
وتشهير بسياسة القمع العسف يقول:
قولوا الذي شغف بالعسف يعشقه مستمعلا نغمة الأخذ بالثأر لا يرجع الحر عن اسباب نهضته
حتى ولو سكن البوليس
في الدار
ويأتي بعدهم منوّر صمادح شاعر صوت الطالب الزيتوني الذي قال في ذكرى 9 افريل:
أفريل يشهد للذين استشهدوا فسل السجون
لو الحديد تكلما...الخ
رحم الله الشهداء وشعراءنا المجيدين والمجد والخلود لله والوطن الباحث الاستاذ المتقاعد: .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.