تونس: الصباح إذا ما تركنا جانبا، الإجراءات الرئاسية الأخيرة في علاقتها بالاستحقاقات الانتخابية القادمة، يمكن القول أن ما تم الإعلان عنه، يعكس من زاوية ثانية رؤية للمشهد السياسي في البلاد، ربما اختلفت عن الرؤية القديمة التي تم اعتمادها لأكثر من عشرية كاملة.. فقد تعاملت الإجراءات المعلن عنها بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين للاستقلال، مع الخريطة الحزبية في البلاد، على نحو يختلف عن التعاطي الذي درج عليه الخطاب الرسمي خلال المرحلة السابقة.. نهاية مفهوم الأحزاب البرلمانية كانت زاوية النظر للأحزاب تقوم على أساس الانتماء للبرلمان من عدمه، وهو ما ترجمته بوضوح، الإجراءات التي تم اتخاذها خلال الانتخابات السابقة، حيث استبعدت الأحزاب غير الممثلة في البرلمان، خاصة منها الحزب الديمقراطي التقدمي في استحقاق العام 1999، وأضيف إليه في انتخابات سنة 2004 التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.. صحيح أن التصريحات الرسمية التي رافقت هذا الخيار، كانت تؤكد على ما يعرف ب"الترشحات الجدية" للانتخابات، وبأن نجاح الانتخابات، أي انتخابات، لا يقاس بكمية الترشحات وعدد المرشحين، وإنما بعملية انتقاء تراعي حداثة التجربة التعددية والحرص على تطويرها.. وعلى خلفية ذلك كان قرار الاستبعاد لبعض الأطراف الحزبية، غير أن ذلك كرّس في واقع الأمر تقسيما للمشهد الحزبي، يقوم على أساس الموالاة والمعارضة، بحيث تم تصنيف بعض الأحزاب على أساس أنها تشكيلات قريبة من السلطة، فيما وصفت أحزاب أخرى، ممن لم يشملها قرار المشاركة في الانتخابات، ب "المعارضة الراديكالية"، على اعتبار أنها لم تكن مرنة بالشكل الكافي، واعتمدت مقاربة تكرّس القطيعة مع الحكومة، ومن اختار هذا التمشّي، فلن يكون ضمن المشهد السياسي والحزبي، بل الانتخابي حتّى.. تصنيف جديد من هذه الزاوية، يمكن القول أن الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الدولة قبل بضعة أيام، والمتعلقة بشروط الترشح للاستحقاقات الرئاسية القادمة، تنهي من الناحية النظرية على الأقل عملية التصنيف التي اعتمدت لسنوات طويلة.. فقد تعامل القرار الرئاسي الأخير، مع الأحزاب من دون اعتبار العضوية البرلمانية، بما جعل الحزب الديمقراطي التقدمي أمام فرصة المشاركة في هذا الاستحقاق الرئاسي لأول مرة منذ تدشين التعددية في الانتخابات الرئاسية.. وبصرف النظر عن موقف الحزب من المشاركة من عدمها في هذا الاستحقاق، فإن قرار فسح المجال لأوسع عدد ممكن من المرشحين من أحزاب المعارضة، ينهي من الناحية النظرية على الأقل، ذلك التقسيم الذي كان شائعا خلال السنوات الماضية.. وفي اعتقادنا، فإن التصور الجديد المعلن عنه، يعيد النظر في عملية التصنيف السائدة للمشهد الحزبي، التي لن تكون على قاعدة الموالاة من عدمها، بقدر ما تتأسس على معطيات أخرى، بينها قوة الأحزاب وتعويلها على ذاتها، وهو ما نص عليه الخطاب الرئاسي بصراحة، والتأكيد على مفهوم "المؤسسة الحزبية"، على قاعدة القيادة المنتخبة.. فلا معنى لترشحات من خارج قيادات الأحزاب في تقدير الحكومة كما لا معنى لترشحات لقيادات غير منتخبة، أي لأمناء عامين لم تفرزهم مؤتمرات انتخابية، وهو ما يشير بالتحديد إلى السيدين مصطفى بن جعفر الأمين العام للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، ومنجي الخماسي، الأمين العام لحزب الخضر للتقدم، اللذين لم يعقدا مؤتمريهما التأسيسيين إلى حدّ الآن، بما يعني أنهما غير منتخبين من مؤتمر حزبي.. وهذا يعني في المحصّلة النهائية، أن مفهوم "الترشحات الجادّة" قد اتخذ أبعادا أخرى غير تلك التي كانت مستخدمة في وقت سابق.. معادلة جديدة للاستقطاب الثنائي لكن الإجراءات الرئاسية التي من المقرر أن تدرج ضمن قانون سيعرض لاحقا على البرلمان للبتّ فيه، والتي من المتوقع أن تثير نقاشا مستفيضا، قد وضعت حدّا نظريا مرة أخرى لما يعرف ب"الاستقطاب السياسي" صلب الساحة السياسية، بما أن الخطاب الرئاسي، اعتمد تصنيفا مغايرا، حيث وضع الحزب الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) مقابل جميع الأحزاب المعارضة الأخرى، بمواليها وراديكالييها، على حدّ الوصف السائد في الأوساط السياسية، وهو ما يحيل ضمنا وضرورة، إلى معادلة سياسية جديدة طرفاها حزب يحكم، وأحزاب تعارض، بصرف النظر عن وجهة هذه الأحزاب واتجاه معارضتها.. قد يكون من الصعب استيعاب مثل هذه القراءة للخطاب الرئاسي، وقد يعتبره البعض من باب "تحميله ما لا يحتمل"، كما يقول المناطقة القدماء، لكنها في كل الأحوال، مقاربة ربما دشّنت مرحلة جديدة في التعاطي الحكومي مع العمل السياسي والحزبي في البلاد..