بقلم: د. مصدق الجليدي ذكرالمفكر يوسف الصدّيق في إحدى مشاركاته التلفزيّة منذ أيام ثلاث أسماء (على سبيل المثال) ترمزللعقل الحداثي وللمعرفة العلمية في تونس حسب رأيه، وهم هشام جعيط وعبد المجيد الشرفي ويوسف الصديق، وقال لو قُضي على هؤلاء فإن تونس الحداثة ستندثرولن تقوم لها قائمة لقرون. بداية، أنا أدعوالله أن يحفظ كل أبناء تونس ومثقفيها ومفكريها وعلمائها من كل سوء. ولكنّي ألفت نظرالأستاذ يوسف الصدّيق أن ما يمثله هو وزميلاه الآخران ليس إلا مدرسة من المدارس الفكرية التي تروم تحديث الفكروالمعرفة في البلاد العربيّة عامة وفي تونس خاصة؛ وأن المنهج المعتمد من قبل هذه المدرسة بالرغم من علوّ شأن أصحابها ليس بوسعه أن يتجذرعميقا في بنية التصورات الاجتماعية والرموز الثقافية والدينية لعامة المسلمين في هذه البلاد وفي غيرها من البلدان العربية ولوخلال عقود من الزمان، وذلك لكونه منهجا يتجه إلى هذه التصوّرات من الخارج ويعالجها كمن يعالج أوراما يريد استئصالها؛ هذا ظاهرخاصة في طريقة عمل وتفكيرعبد المجيد الشرفي (انظر مثلا كتابه "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" الذي عمل فيه على فسخ الرّسالة والتاريخ الإسلامي معا، ب"تاريخانية" تلقي بنا كلية في مسار التاريخ الغربي). والأمربغيرهذا الوضوح في مقاربتي الصدّيق وجعيط، لكون الأول يتبنّى منهجا تأويليا يوهم بالحفاظ على الأصل (النص) والتضحية بالأفكارالثواني التي نسجت من حوله؛ بينما يعيد موضعة هذا الأصل في سياق الفلسفة اليونانية والثقافة اليونانية ورموزها وآلهتها (يغوث ونسرا وما إلى ذلك...: انظركتابه "أفلا يقرؤون القرآن..."). أما جعيط فيتبنّى مقاربة "ظاهرياتية" تسلم للرّسول (ص) بصدق اعتقاده في نبوّته وتبني على تلك المصداقية صحّة القرآن كوثيقة تاريخية يمكن الاطمئنان إلى صدقها (بموجب العلاقة القصديّة المشارإليها آنفا: القصديّة بالمعنى "الفنومنولوجي") ولكنه لا يستطيع تجاوزنظرية الميراث التاريخي الفكري والروحي (أركيولوجيا ) ونظرية الانخطاف(سيكولوجيا) ليصبح القرآن في كتابه (تاريخيّة الدعوة المحمديّة في مكّة) مجرّد استبطان من قبل الرّسول(ص) للأناجيل المنحولة وخطب "أفراييم" يعيد إنتاجها في إبداع عربي مبين في لحظات الانخطاف "الاكستازية". في مقابل هذا المنهج "البرّاني، يوجد منهج آخرجُوّاني (يُحاول الإصلاح من داخل المنظومة الثقافية الأهلية)، شهودي لا جحودي، ومن أعلامه أبو يعرب المرزوقي واحميدة النيفر ومحمود الذوادي ومحمد الطالبي وعبد الوهاب بوحديبة ومصدق الجليدي، ويبني منهجا إصلاحيا فكريا وفلسفيا من داخل "البراديغم" الشهودي (الذي يشهد بأن للعقل حدّا يقف عنده ولا يتعدّى طوره، كما يقول ابن خلدون، فيؤمن بالغيب من دون خوض فيه). هم في ذلك تلامذة وورثة المعتزلة والرشدية ولأب العلوم الإنسانية ابن خلدون ولآباء التيار"المقاصدي "منذ الغزالي "المستصفى" والشاطبي "الموافقات" إلى ابن عاشور "مقاصد الشريعة الإسلامية". يلتقون موضوعيّا مع فيلسوف "ختم النبوّة" محمد إقبال. وما يتميزبه أتباع هذه المدرسة عن الأوائل المذكوين أعلاه هو استفادتهم من نفس المنابع العلميّة والفلسفية التي يستفيدون منها ولكنهم يزيدون عليها أمرين. موقف مختلف من التراث يجعلهم يقرؤونه على نحو يجسرالحاضر بالماضي ويستفيد من كنوزالحكمة التي انطوى عليها، وموقف منفتح على كامل المنجزالعلمي والفكري الإنساني، يجعلهم يقيمون بينه وبين التراث العلمي والفلسفي الأهلي حوارا مخصبا، تنتج عنه بعض الثمارالحداثية الأصيلة؛ مما يجعلهم أقرب إلى وجدان الأمة والأقدرعلى إصلاح أوضاعها. أخيرا لا نقصد من وراء ما سبق قوله إقامة حدّ فاصل بين الفريقين "البرّاني" و"الجوّاني"، بل إننا على العكس من ذلك نرى ضرورة الاستفادة من كلا الفريقين، سلبا بخصوص الأول (أي تساوقا معهم في نفيهم للخرافة وللفكراللاعلمي وفي محاربتهم للتعصّب والانغلاق، وهو ما يوافقهم عليه أبناء الفريق الثاني) وإيجابا بخصوص الثاني (أي بالاستفادة من البناء الإيجابي الجديد للمعرفة العلمية والفلسفية الذي يصهرما هوكوني في الفكرالأصيل وفي الفكرالحداثي معا). كما أننا نسلم بوجود مساحة مشتركة بين كلا الفريقين لا في السلب فقط (أي الاشتراك في محاربة الجهل والتعصب) بل حتّى في الإيجاب، وهوما ينتجه كلا منهما ممّا يقع في دائرة المعرفة العلميّة المسلم بصحتها المؤقتة كونيا أومن داخل رابطة علمية معينة تشترك في العمل داخل نفس "البراديغم" العلمي أوالفلسفي.