مطاردة «السراق» ب»الفوشيك» لصوص على متن «BMW».. في ثنايا الاحتجاجات والاعتصامات والتجاذبات والتطورات اليومية التي تشهدها البلاد مازالت فئة «هائمة» تعيش على وقع الرحيل لم تحقق حلمها في الاستقرار لتواصل رحلتها على مدار العام بلا عنوان.. رحل لم تهب عليهم رياح الثورة وجدوا أنفسهم مضطرين الى مواصلة ترحالهم الذي أتعبهم وأرهقهم وأشقاهم ومع ذلك رفضوا الاستسلام وأعلنوا التحدي لقساوة الطبيعة وصعوبات الحياة والمعاناة.. لما تسللنا لواقعهم لمدة ساعات لمحاولة لفهم الوجه الآخر لحياتهم وجوانب من معاناتهم اكتشفنا مدى تشبثهم بأرض هذا الوطن حتى وأن أغلبهم لا يملك بها شبرا واحدا- وتمسكهم بعادات أجدادهم حيث توارثوا «الرحيل» و»ربوا الكبدة» على قطعانهم كما يقولون لانهم يرفضون التفريط فيها مقابل أموال الدنيا.. شددنا الرحال في جولة قادتنا الى بعض المناطق بجبل الوسط والفجة والمرناقية ومناطق اخرى حيث بدت البادية على مشارف العاصمة واقتربنا اكثر من عالمهم وتحدثنا معهم. «وين يطيح الليل نبات» على امتداد المسافة الفاصلة بين الفجة وجبل الوسط كنا نبحث على أي أثر يقودنا الى الرحل وما ان لمحنا خيمة بالسهول المحاذية لمدينة جبل الوسط حتى توجهنا اليها ومع وصولنا حاصرتنا الكلاب التي منعتنا من النزول من السيارة الى حد وصول صاحبها علي الهمامي الذي استقبلنا بحفاوة وتحدث لنا عن معاناته الطويلة مع «الرحيل» قائلا «توارثنا هذا النشاط عن أجدادنا ونحن الجيل الرابع و»ربينا الكبدة» على تربية الماشية التي ننتقل بها من مكان الى اخر عبر مختلف ولايات الجمهورية يعني «كيم وعشة ومعيزات ووين يطيح الليل نبات» حيث نستقر كلما وجدنا «عشابة» أي مراعي لمواشينا.. وأشير هنا الى ارتفاع اسعار «التعشيب» التي تصل احيانا الى 30 الف دينار لمدة اشهر محدودة.. أحيانا تمتد رحلتنا بين ولاية وأخرى على مدى ثلاثة ايام وما يرافقها من مخاطر الطريق حيث نمشي نهارا ونبحث عن مكان لنقيم به ليلا بمبلغ 100 دينار لليلة واحدة وكأننا في نزل من فئة 4 نجوم.. في أكثر من مرة صدمت احدى السيارات نعجة وتركتها جثة بلا حراك ومع ذلك ليس لنا أي خيار.. ولن أتحدث عن الاسعار الباهظة للعلف». على بعد حوالي 500 متر التقينا مجموعة من الرحل -اصيلي ولاية قابس- حيث أفادنا مصباح بورقعة انه توارث نشاط تربية الماشية عن اجداده وهو في تنقل دائم للبحث عن مراع لأغنامه رغم التكاليف الباهظة لنقلها حيث يقدر ثمن سفرة شاحنة تسع ل120 رأسا ب500 دينار الى جانب الخسائر التي تنجرّ احيانا عن مرض الغنم بسبب تغير المناخ والعشب. وقال ابنه جمال «ان العلف غير متوفر رغم ارتفاع سعره» وتذمر الراعي بلقاسم من ظروف العيش وصعوبة الحصول على الماء للمواشي اضافة الى انه لا يمكنه زيارة عائلته الا في يوم واحد كل ثلاثة أشهر كما حدثنا عن مخاطر السرقة والمفاجآت غير السارة التي يتعرضون إليها. «مللنا الرحيل» وطالب كل الذين تحدثنا معهم بايجاد تسهيلات لكراء أراض دولية أو مساعدتهم على اقتناء أراض للاستقرار وبعث مشاريع لتوفير الاعلاف لمواشيهم وتنويع منتوجهم بما ينعكس ايجابيا على الانتاج الوطني عموما باعتبار ان رحيلهم الدائم أضرّ بقطعانهم التي يموت منها البعض أثناء كل رحلة جديدة. وقال جمال بن مصباح -أصيل قابس- الذي التقيناه بجهة جبل الوسط «مللنا الرحيل وعلى الدولة ان تتحمل مسؤوليتها اليوم في ايجاد الصيغ الملائمة التي تمكننا من الاستقرار بمسقط رأسنا الذي لن يتحقق في غياب منحنا الاراضي لحفر الآبار وتوفير العلف وهي الوسيلة الوحيدة لاعادة القطيع والا فاننا سنفقده تدريجيا خاصة ان بعض الرحل باعوا قطيعهم لليبيين بعد ان عانوا لسنوات طويلة من معاناة الرحيل». واضاف عصام الهمامي «ان مربي الاغنام مضطر اليوم الى بيع العلوش «حليب» بأرخص الأثمان لتوفير مصاريف العلف والأدوية و»العشابة» وغيرها من النفقات التي تثقل كاهله لذلك لا بدّ ان تتحمل الدولة مسؤوليتها في مساعدة الرحل -الذين لا يملكون أي شبر- على كراء او اقتناء أراض بشكل يفتح الابواب امامهم ويريحهم من المعاناة .. يكفيهم عذاب عشرات السنوات وهم يسيرون نحو المجهول بلا عنوان.. ولا ندري متى ستهب رياح الثورة على هذه الفئة». مخاطر.. ومفاجآت بعيدا عن الظروف الحياتية القاسية يكون الرحل عادة عرضة للمخاطر والمفاجآت غير السارة ليلا ونهارا اذ غالبا ما يداهمهم اللصوص حتى في «عز القايلة» لتتحول المسألة الى مواجهة تحسمها الكلاب التي تناصر «أصحابها» لكن قد ينجح السارق أحيانا في «اختطاف» ولو علوش وحيد باعتبار ان الهجوم يكون مباغتا ومفاجئا ولا يترك الفرصة لأصحاب القطيع بالتحرك السريع. والغريب ان اللصوص يقدمون احيانا على متن سيارات فخمة للتمويه وابعاد الشبهة عنهم وقد كشف لنا علي الهمامي انه داهمه في احد المناسبات سارق على متن سيارة «BMW» حيث تمكن من سرقة علوش والهروب بسرعة البرق رغم محاولته الامساك به. واستطرد قائلا «محاولات السرقة تعودنا عليها حيث نكون في حالة استنفار دائم ليلا ونهارا واضطر الى استخدام الفوشيك لمطاردة اللصوص وتخويفهم وهنا أرجو ان يمكنونا من رخص امتلاك سلاح ناري للدفاع عن انفسنا من كل المخاطر.. بل ان احد المربين بجهة سليانة داهمه سارق ولما هدده باطلاق النار عليه صوب اللص نحوه سلاح كلاشينكوف وطلب منه دخول خيمته والا خرب جسده صحبة عائلته وهو ما اضطره المسكين الى التراجع مما سمح للص بسرقة كل ماشيته التي تزيد عن 60 رأسا.. واحيانا يستعمل اللصوص سيارات مكتراة ويتبعون خططا غريبة لنبقى نعاني الويلات ونواجه باستمرار مصيرا أسود ازدادت قتامته مع انعدام الاستقرار الامني». وسردت لنا الخالة جمعة بنت عمار التي وجدناها داخل خيمتها بجبل الوسط حكاية عائلة بالمنطقة تعرضت للسطو بعد ان عمد اللصوص الى تقييدهم ثم حملوا كامل قطيعهم على متن سيارتين واضافت انا لا «نشبع» بالنوم في ظل خوفي الدائم من خطر قد يداهمنا في كل لحظة.. نعيش معاناة حقيقية لكني تعودت على حياة البداوة وانسجمت معها رغم صعوبتها حيث اصبحت أشعر بالاختناق كلما أدخل منزلا.. خيمتي عمرها اكثر من 100 سنة وتوارثنا «الرحيل» أبا عن جدّ.. اليوم في جبل الوسط وبعد أسبوع فقط أجهل أين سأكون.. «حقرة».. وأحلام مقبورة لا أحد تحدثنا اليه من الشبان الا وتذمر لنا من «الحقرة» بمعنى نظرة الازدراء والاحتقار التي يرمقونها من ردود أفعال الناس وحتى من مجرد نظراتهم لأن «السارح» يعاني من «حقرة» نفرت الكثيرين من هذا العمل على حدّ تعبير عصام الهمامي مضيفا «اذا تقدمت لخطبة فتاة وطلب يدها تجد اجابة واحدة «ما نعرسش بسارح» الى حد اصبحنا نشعر وكأننا من قبائل التوارق أو من صحراء التشاد». أما شقيقه علي فقد أكد لنا أنه بلغ 38 سنة لكنه لم يجد الفرصة للتعرف على أي فتاة في ظل انشغاله المتواصل بالاغنام ورحيله الدائم من مكان الى آخر. مازالت كلمات الفتاة نورس التي التقيناها على مشارف العاصمة بالمرناقية ترن في أذني وهي تقول «مللت أسلوب عيشي ومعاناتي بعد ان حرمت من طفولتي وريعان شبابي .. عمري 16 سنة و»قبرت» أحلامي بعد ان قضيت سنوات أرعى الابل والاغنام حيث لم اعرف من الحياة رغم صغر سني الا شظفها و»أهوالها» ونحن في رحيل دائم بين باجة صيفا وتونس شتاء». وتنهدت نورس ثم تابعت متحسرة متذمرة «نقطن ب»القيطون» بهضبة تجمع الكثير من الرحل الذين يعانون الويلات.. كرهت حياتي وأتمنى لو لم أوجد في هذه الحياة لأني اصبحت مثل «النعجة» وأنا محرومة من كل شيء.. وأخشى من مصير ارتباطي بشاب من الرحل ليتواصل عذابي وشقائي»...