بقلم: الدكتوربلقاسم صابري ان يعمد شاب تونسي في مقتبل العمرللانتحاربسبب ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة فهذه بلا شك مصيبة كبرى. وان تكون من اسباب الاقدام على الانتحارعدم حصول هذا البائع المتجول على حقه في بطاقة العلاج المجاني فالمصيبة أعظم. ان ماساة هذا الشاب تختزل واقع تجريف الحقّ في الصحّة على امتداد العقود الاربعة الاخيرة وخاصة منذ اطلاق ما يسمى ببرنامج الاصلاح الاقتصادي الهيكلي في منتصف الثمانينات. ولقد اشارت إحدى اقارب الفقيد في حديث تلفزي مؤثرالى ان دخل الهالك الشهري كعامل متجول للسجائرالمهرّبة لا يتجاوز 160 دينارا يذهب جزء هام منه لنفقات التداوي في القطاع الخاص . وإني كطبيب وكناشط حقوقي أشعربالخجل من تدهورالحقّ في الصحّة وبمرارة العجزعن توفيرالبدائل ومن المعاملة البيروقراطية لجثة الهالك في أكبرصرح طبّي عمومي" مستشفى شارل نيكول". وانا على يقين ان زميليّ الحقوقيين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التاسيسي وغيرهما من الذين عاشوا نخوة الصحّة المجانية بعد الاستقلال يبادلونني نفس الشعور؛ لذا وجب التساؤل عن مسبّبات هذا الوضع المرفوض سياسيا واخلاقيا خاصة ان عدم التغطية بأي نظام تأميني تشمل حسب التقديرات حوالي مليون تونسي يتوزعون بين العاطلين عن العمل والعمال الموسميّين وأصحاب المهن البسيطة وكذلك كبار السنّ الذين لا يتمكنون من المطالبة بالحقّ في الصحّة المجانية. وتعتبرهذه الشرائح الاجتماعية على درجة عالية من الهشاشة ممّا يزيد من تعرّضها للامراض ومن صعوبة الحصول على الخدمات في القطاع الصحي الخاص في غياب تأمين على فواجع المرض. مجانية الخدمات الصحية بعد الاستقلال لقد ضمن دستور1959 الحق في الصحة والتعليم في مختلف مراحله وكذلك التغطية الاجتماعية حيث صدراول قانون للضمان الاجتماعي بما في ذلك التغطية الصحية سنة 1960. ولم تعكس التشريعات التقدمية الرؤية الاستشرافية للقيادة السياسية فقط بل كانت كذلك نتاجا لنضالات الطبقة الشغيلة وتضحيّات الاتحاد العام التونسي للشغل خلال حركة التحريرالوطني وبعدها لقد أدت السياسات التقدميّة في مختلف المخططات التنموية الى تطور متطرد للبنية الصحيّة والى زيادة كبيرة في الموارد البشرية الصحيّة شملت اغلب الجهات رغم وجود تفاوتات استمرت ولا تزال للأسف. وكنا نفخران ثلث ميزانية الدولة كان ينفق على التعليم والصحة. اضافة لأنظمة الضمان الاجتماعي التي كانت توفرتغطية اضافية غير إلزامية في الميدان الصحي فإن خدمات القطاع الصحي العمومي قد بقيت مجانية للجميع خلال عقدي الستينات والسبعينات. إن الاستثمارات الكبيرة في الميدان الاستشفائي والتوسّع في مدارس التمريض وانشاء كليات طب وطنية قد ساهمت في تحسين مستوى الخدمات الصحية والطبية المقدمة للمواطنين . كما ان تطورالمحدّدات الاجتماعية مثل التعليم وتوفرالماء الصالح للشرب والعمل اضافة لتحسين التغطية بالخدمات الوقائية قد ساعدت على القضاء على الاوبئة التي كانت متوطنة في تونس غداة الاستقلال وأدت الى تراجع معدلات المراضة والى تحسن ملحوظ في توقع الحياة عند الولادة مقارنة بالدول المغاربية والدول ذات الدخل الوطني المشابه. سياسة الاصلاح الهيكلي وبداية التراجع في الحق في الصحة المجانية لقد أدى فشل تجربة التعاضد في الميدان الاقتصادي ونظام الحزب الواحد الاستبدادي وغياب الحريات والمشاركة الجماهيرية الفعلية الى تازم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وصل اقصاها في اول إضراب نفذه الاتحاد العام التونسي للشغل دفاعا عن استقلاليته سنة 1978 والذي ذهب ضحيتة كثيرمن القتلى والجرحى. ان استفحال الازمة المالية في منتصف الثمانينات قد اضطر تونس للاقتراض من صندوق النقد الدولي لتحسين ميزان الدفوعات وإصلاح الاختلالات المالية للميزانية العامة. وكما يعلم الجميع فلقد كانت الوصفة جاهزة عند خبراء ما يعرف بمؤسسات"بريطن وودز" اي البنك الدولي والصندوق الدولي وهي المتمثلة اساسا في خفظ الدعم على المواد الاستهلاكية وتراجع الانفاق العمومي في الميادين الاجتماعية بما في ذلك التعليم والصحة والتوجه نحواقتصاد السوق. لقد دفع الشعب التونسي ضريبة غالية لحزمة ما يسمّى بالإصلاحات الاقتصادية تمثلت في ثورة الخبز سنة 1984 وبداية التراجع في الخدمات المجانية للدولة بما في ذلك الصحّة. ومنذ منتصف الثمانينات بدأت الدولة في تحصيل رسوم على الخدمات الصحية غيرالوقائية و التعزيزية المقدّمة في مختلف المؤسسات الصحية والاستشفائية العمومية وبدء نسق تراجع الانفاق العمومي كنصيب من الانفاق العام على الصحة من 45% في السبعينات الى 26.4 % سنة 2006. ان وجود حواجزمالية في المؤسّسات الصحيّة العموميّة قد أدّى الى ارتفاع الأعباء على الأسر والى تراجع الحصول على الخدمات الصحية العمومية رغم عدم توفردراسات في هذا الميدان وضعف منظومة المعلومات. وقد ساعدت قروض البنك الولي القطاع الصحي في نهاية الثمانينات والتسعينات على تطويرالطابع المحاسبي للمؤسّسات ضمن سياسة استرجاع النفقات لمختلف الخدمات الصحية رغم توفيربعض الاستثناءات للفقراء والمعوزين الحاصلين على بطاقات العلاج المجاني من الصنف الاول. كما اتجهت عديد المستشفيات العموميّة بسبب الضغوطات السياسية المختلفة والمناولة الى التخلي لفائدة القطاع الخاص على عدد من الوظائف مثل إعاشة المرضى وحراسة المؤسّسات الصحيّة وغيرها. السياسة "النيوليبرالية" والتوجّه نحوالصحة لمن له الإمكانيات المادية لقد شكلت اختيارات اقتصاد السوق مدعومة بالمدّ النيوليبرالي العالمي الداعي الى رفع يد الدولة عن كل الميادين بما في ذلك الاجتماعية وعولمة راس المال وظهورمنظمة التجارة العالمية تحدّيات كبيرة لما تبقى للمواطن التونسي العادي من حقه في الصحة الذي ضمنه دستور 1959 في ديباجته. فلقد اثبتت الاحصائيات ومسوحات الانفاق الاسري وكذلك دراسات الحسابات الوطنية للصحة تآكل حق التونسي في الصحة من حيث زيادة أعباء الانفاق الصحّي الذي اقترب من نصف الانفاق العام على الصحة ووصول %5 من الأسرالى ما يسمى بالانفاق الكارثي على المعالجة في القطاع الخاص من حيث استنفاذ مدّخرات الاسرة والاستدانة من الاقارب والبنوك والاضطرارفي بعض الأحيان لبيع موارد الرّزق ونزول حوالي %2 من السكان تحت خط الفقرسنويا بسبب مرض في الأسرة. لقد اصبح القطاع العام الذي يشكل سند المواطن الفقيرفي الميدان الصحّي وغيره في وضع متدهوربسبب الاختيارات السياسية والاقتصادية من حيث نقص الموارد المالية وهجرة الكوادرالجيّدة والمختصة نحوالقطاع الخاص المتطور. ان هذا المشهد الماساوي يعبرعن عدم العدالة في تقديم الخدمات الصحية وفي ظهورنظام يعمل بسرعتين حسب الامكانيات المالية . فالمواطن العادي والفقيرلا يجد الا القطاع العمومي المترهل بينما يتوفرلمن لهم الامكانيات وسائل العلاج الجيّد في مؤسّسات القطاع الخاص اوحتى خارج حدود الوطن. ان هذا الوضع يشكل انتهاكا لحقّ المواطن التونسي في الصحّة ويبرز الاهمية القصوى لتضمين الحقّ في الصحة في الدستورالجديد وفي استخلاص الدروس من تراجع الحقّفي الصحّة الذي ضمنه اول دستور لما بعد الاستقلال.