مع انقضاء أكثر من شهر على غياب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، الذي انتقل الى أحد المستشفيات الفرنسية للعلاج، لا يزال الغموض والترقب سيد المشهد في الجزائر حيث تزدهر بورصة التكهنات حول صحة الرئيس الغائب كما حول مسألة الخلافة التي أسالت حتى الآن من الحبر الكثير في محاولة استقراء مختلف السيناريوهات التي قد تطرأ على المشهد الجزائري في حال استمر غياب بوتفليقة لأي سبب من الأسباب. الواضح حتى هذه المرحلة أن الاخبار التي راجت منذ اختفاء بوتفليقة عن المشهد قد راوحت من النقيض إلى النقيض، فيما يصر الصوت الرسمي ممثلا في وزير الخارجية مراد المدلسي على تكذيب ورفض كل الانباء السلبية القادمة من باريس ويؤكد تحسّن صحّة الرئيس واقتراب موعد عودته... موقف قد لا يجد غير التشكيك لدى شريحة واسعة من الجزائريّين خاصة بعد منع صدور صحيفتين محليتين بسبب تلك الأخبار... لقد أعاد مرض بوتفليقة الى السطح أحد الملفات الحساسة في العالم العربي عموما حيث تصر المصادر الرسمية على أن القادة بألف خير حتى وإن كانوا في حالة احتضار وحيث يحرص أيضا الحكام والقادة العرب دون استثناء على الانتقال الى العواصم الغربية للعلاج حتى اذا أصيبوا بمجرّد نزلة برد، وكأنهم يعترفون بذلك بفشلهم في توفير منظومة صحية ملائمة في بلدانهم وذلك بالرغم من وجود عديد المهارات الطبية العربية التي اختارت المهجر للعمل والابداع في مجالها. مرض بوتفليقة أثار حتى الآن من الإشاعات والأنباء من النقيض الى النقيض بين من يعتبر الامر مجرد فصل أول من مسرحية ستنتهي في جزئها الثاني بعودته للترشح لولاية رابعة في الانتخابات الرئاسية، وبين متأهّب لتكرار سيناريو رحلة علاج بومدين في الاتحاد السوفياتي وما رافقها من أخبار وتقارير رسمية مطمئنة عن وضعه الصحي قبل أن يستفيق الجزائريون على نبإ وفاته... سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المختفي هو من يواجه كل الاتهامات بالوقوف وراء حالة التعتيم وغياب الشفافية عن الوضع الصحي لبوتفليقة... بل الواقع أن بوتفليقة ليس الحاكم الوحيد المريض في جسده، بل ان أغلب الحكام العرب في دول الخليج أو غيرها يعانون من أمراض مختلفة بحكم التقدّم في السّن أو غير ذلك من أمراض العصر، وعديد الامراء يتغيّبون لأشهر من أجل العلاج ومن لم يصب في جسده ابتليََ في مداركه العقلية بسبب الإدمان على السّلطة والتعلق بالكرسي. حتى الآن وبرغم التناقض الصارخ في قراءة تداعيات المشهد في الجزائر يبدو أن الشارع الجزائري مجمع على أن مؤسسات الدولة قائمة وتؤدّي وظائفها في غياب الرئيس وهو ما يعزز تلك القناعة التي عبّر عنها أحد الجنرالات المتقاعدين في الجزائر عندما وصف الجهاز السّياسي الجزائري بعلبة سوداء بداخلها أفراد ولكنهم لا يعرفون كيف يعمل الجهاز، وكلما حاول الخبراء اقتلاع أسرار إدارة السلطة في الجزائر وجدوا أنفسهم أمام جدار منيع. والكثير من الجزائريين يعترفون بأن الرئيس الجزائري في مرحلة نقاهة منذ عقد وليس منذ شهر فقط ولكن المؤسّسة العسكرية ليست كذلك وهي تبقى الحصن للجزائر رغم كل ما يروّج حول قياداتها من ضلوع في الفساد... سيناريوهات مرض الرؤساء والحكام لم تبدأ مع بوتفيلقة، فقد كان ولا يزال لكل حاكم ملفه الصّحّي السّرّي الذي لم يكن ليخفى عن العامة وكانت بعض تفاصيله تتسرّب بشكل أو بآخر الى العامة: الملك حسين، بورقيبة، مبارك وغيرهم حكاياتهم مع المرض ورحلات العلاج في الخارج وما رافقها من تعتيم رسمي لا تبرير له في الواقع ولا تفسير الا إصابة هؤلاء بوباء الخوف من فقدان السلطة ووجودهم في محيط من المستشارين المنافقين المبتلين بدورهم بلعبة المصالح والذين لا يحسنون غير تأليه زعمائهم وتعزيز القناعة لديهم بأن وجود الأوطان من وجودهم وليس العكس، وأن انسحابهم بما يكفل لهم الكرامة واحترام الشعوب ويهيئ الأرضية لثقافة الانتقال السّلمي للسلطة أمر غير مطلوب، بل ومهين لشخوصهم وتاريخهم ... مرض الرئيس بوتفليقة ليس بالأمر المنحصر في دائرة الجزائر، بل هو ينسحب الى خارج حدود هذا البلد المجاور الى مختلف القصور الرئاسية والملكية حيث يرفض من دخلها أن يغادرها إلا وقد أقعده المرض أو غيّبه الموت والعجز أو أطرده الشعب وتبرّأ منه ... قبل سنوات أعلنت منظمة الصحة العالمية تلقيها توصية بإخضاع قادة العالم لفحوصات دورية كل ثلاث سنوات لتحديد مدى أهليتهم وقدرتهم البدنية والعقلية على أداء مهامهم وخدمة شعوبهم... توصية من شأنها أن تجد لها اليوم أكثر من دافع لتفعيلها وتحويلها الى بند صريح في الدساتير لتجنيب الشعوب ظلم واستخفاف حكامها إذا ما ابتلوا بوباء السلطة المطلقة والحكم المطلق الذي لا يمكن الا أن يتحوّل آجلا أو عاجلا الى فساد مطلق ...