لا ندري ان كان يتعين تقديم أسمى عبارات الشكر للأمم المتحدة على تقاريرها المنتظمة التي تأتي في كل مرة لتذكرنا بحجم الخسائر البشرية وما آلت اليه آخر المجازر التي لا تكاد تتوقف في بلاد الرافدين، أم كان يتوجب استنكار إهدار كل هذه الجهود الأممية في رصد وإحصاء ضحايا تحولوا في قاموس العالم الى مجرد رقم يضاف الى سجل الوفيات المتساقطة على الطرقات والمسالك في مختلف المدن والاحياء العراقية سنية أو شيعية. مرة أخرى يأتي تقرير الأممالمتحدة عن العراق ليعيد الاذهان المغيبة الى الواقع كاشفا أن شهر ماي وحده شهد مقتل أكثر من ألف عراقي في الصراع الدموي الطائفي الذي ينخر جسد هذا البلد العربي الشقيق منذ تعرضه للغزو قبل 10 أيام، وهي حصيلة لا شك أنها تسقط كل التحذيرات من وقوع العراق في فخ الحرب الاهلية.. بل إن المنطق يؤكد اليوم أنه غارق حتى العنق في براثن الحرب الطائفية وأنه في قلب الخطر وليس بمنأى عنه. مشهد مأساوي ما في ذلك شك يؤكد بعد عشر سنوات على اجتياح هذا البلد أن حالة المخاض التي يعيش على وقعها العراقيون ليست قريبة من النهاية وأن تحقيق الديموقراطية التي وضع أسسها جنرالات واشنطن ليست على وشك أن تعطي ثمارها التي توهم البعض أنها ستعم البلاد بعد رحيل صدام. بل ان مسلسل التفجيرات اليومية المنسقة يؤكد أن الأطراف التي تدفع بالعراق الى الدمار والخراب والتفكك تدرك جيدا هدفها... المواسم الدينية والأعياد المقدسة وصلاة الجمعة بما في ذلك الصلادة الموحدة التي دعت السلطات الرسمية الى القيام بها عسى أن توحد القلوب وتطهر النفوس باتت موعدا معلنا مع الموت على عتبات المساجد والاضرحة. وما دفعه العراقيون حتى الان من دماء وأرواح أبنائهم لا يبدو أنه حقق الاكتفاء للمتعطشين للمزيد منها، ولا أحد بإمكانه أن يعرف كم يتعين على العراقيين تقديمه من الأرواح حتى يستعيدوا أمنهم الضائع. إن كل المؤشرات القادمة من العاصمة السياسية بغداد لا توحي بقرب الانفراج وتهديدات رئيس الحكومة المالكي باستهداف كل المتآمرين على أمن العراق والعراقيين لا تقبل غير تفسير واحد وهو الإصرار اللامحدود لكل الفاشلين على التمسك بالسلطة حتى النهاية حتى ولو أدى الأمر الى تصفية كل الشعب... والخوف الأكبر اليوم أن يتكرر السيناريو العراقي في سوريا ولبنان فيبلغ درجة لا يمكن له التراجع بعدها... ففي ظل العجز والهوان والضعف السياسي والعسكري وغياب الإرادة ومختلف أمراض السلطة التي ابتلي بها الحكام العرب ومعهم مفرقتهم الجامعة العربية جامعتهم العربية، يبقى المشهد العراقي مرشحا للامتداد كالوباء المعدي أكثر وأكثر ليقسم ما لم يقسم ويفكك ما لم يفكك حتى الان. وربما تنجرف مصر بدورها الى نفس السيناريو مع ظهور أزمة "سد النهضة " الذي يزيد المشهد المصري المتأزم أصلا تعقيدا... أخيرا وليس آخرا فإن الحقيقة أن في تلك الخطبة النارية التي أطلقها الشيخ القرضاوي أول أمس ضد حزب الله ووصفه "بحزب الشيطان ونصر الطاغوت" ما يؤكد أن كل ما رأيناه حتى الآن في سوريا ليس سوى نقطة من بحر بعد أن اختلطت كل الأوراق بين السياسي والديني والفتاوى كل ينصر "أخاه ظالما أو مظلوما"... نسي القرضاوي دوره كرجل دين يؤلف بين الناس، يجمع ولا يفرق، واختار أن يكون صوته مرددا لما يصدر عن شيوخ الدوحة والرياض والمنامة التي قد لا تكون في موقع من باستطاعته اليوم قراءة الاحداث كما يجب واحتمالات امتداد المشهد العراقي والسوري اليها. فمع الإقرار بمسؤولية الأسد عن السير بسوريا الى المجهول اليوم بعد أن جعل منها مسرحا للاقتتال بين مختلف الجماعات الارهابية المسلحة، فإن القرضاوي سيتحمل مسؤولية كل السيناريوهات المحتملة التي ستجرف الجميع بعد أن تكون اسرائيل وحلفاؤها قد استفادت من غباء الحكام وفقدان البصر والبصيرة ودفعت بهم الى أن يتولوا الاقتتال نيابة عنها ويغرقوا في دماء بعضهم البعض، وبذلك ينجح الحكام العرب في تحقيق ما فشلت كل السلطات الاحتلالية بعتادها وأجهزتها العسكرية والاستخبارية في تحقيقه والتي اهتدت الى أن أفضل وسيلة لضمان مصالحها في المنطقة أن تدفع بهم الى تصفية بعضهم البعض وتتخذ لها موقعا للفرجة.. وهي متأكدة بأنهم فعلا بارعون في ذلك وسيتولون بالنيابة عنها مشاق القيام بالدور القذر الذي تخطط له وتريده.