سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عندما تكون الموسيقى «سلاح الدمار الشامل الحقيقي» جوقة الجيش الأحمر الروسي تفتتح مهرجان قرطاج الدولي في دورته التاسعة والأربعين أمام تفاعل مذهل للجماهير...
إن نجاح جوقة الجيش الأحمر الروسي في مهرجان قرطاج الدولي كان متوقعا ومنتظرا جدا لأن تاريخ "Les Choeurs de l'Armée Rouge" الطويل الذي انطلق منذ ثلاثينات القرن الماضي هو عبارة عن سلسلة من النجاحات المتتالية سواء في روسيا أو في الخارج يترجم عنها في لغة الأرقام بالعدد الكبير من العروض وبالملايين من الجماهير لكن لم نكن نتصور أننا سنعيش لحظة بتلك القوة وذلك العنفوان ولم نكن نتوقع أن تهتز مشاعر الجمهور وأن يتفاعلوا مع العرض إلى درجة رأينا فيها الجماهير وكأنها أمواج بشرية مدفوعة بتيارات باطنية حولت المسرح إلى أشبه ما يكون بالبحر الصاخب المتجدد المليء بالحياة. كان الأمر كذلك وربما أكثر لأنه من الصعب أن نجد الكلمات التي نعبر عنها عن الفرحة الخالصة التي عاشتها الجماهير التي هبت بالآلاف إلى المسرح الأثري بقرطاج ليلة الجمعة 12 جويلية في أوّل عرض من عروض الدورة التاسعة والأربعين لمهرجان قرطاج الدولي والتي لعلها لم يحدث أن قابلت عرضا فنيا بذلك الكم من التصفيق مثلما فعلت ليلتها. كان العرض قد انطلق قبل الحادية عشرة ليلا بربع ساعة تقريبا. لحظة دخول الجوقة في حد ذاته على الركح كانت لحظة مهيبة جدا. وقفت الجماهير إجلالا للنشيد الوطني لفيدرالية روسيا ثم كانت المفاجأة حيث عزفت المجموعة الموسيقية النشيد الرسمي الوطني التونسي وأدّى الكورال الكلمات باتقان واضح مما أثار عاصفة من التصفيق ولعلنا نشير في هذا السياق إلى أن الجمهور التونسي لم يكن محتاجا لأن يطلب منه بالصوت العالي من داخل الكواليس بأن يظل واقفا من أجل النشيد الوطني التونسي لأن هذا الجمهور الذي وقف تلقائيا للنشيد الوطني الروسي لا نخاله كان ينوي أن لا يقوم بالمثل لنشيده الوطني ولعلم بلاده. وإن كانت مهمة آداء النشيد أوكلت للفنان سفيان الزايدي فإن الجماهير أبت إلا أن تقاسمه هذا الشرف وخرجت الكلمات من الحناجر بالآلاف في مشهد تحرّكت فيه المشاعر وهاجت الأشواق واستبد الحماس بالجماهير وازداد الإحساس بالإنتماء. الجمهور ليلتها كان مختلطا تونسي وأجنبي ومتنوع يضم الشباب والأطفال والكهول من الجنسين... لكن درجة الحماس كانت تقريبا واحدة. سهرة غنية بالألوان والألحان الكل وقع تحت سحر هذه الجوقة التي تستعمل الآلات الموسيقية والأغاني والتراث الفني الروسي والإنساني أسلحة لها فكانت فعلها على الجمهور ليلتها فعل أسلحة الدمار الشامل. جوقة الجيش الأحمر الروسي مجموعة عسكرية موسيقية مرت بعدد من المراحل قبل أن تصل ليلة الجمعة إلى المسرح الأثري بقرطاج بقيادة الجنرال فيكتور إيليسيف. كانت قليلة العدد في بداياتها لا تتجاوز العشرة أنفار بقليل ثم اصبحت تعد قرابة 300 عضو, تسعون منهم جاءوا إلى تونس وقدموا عرض افتتاح الدورة الجديدة لمهرجان قرطاج الدولي. المسرح ليلتها كان مشعا بالألوان والإضاءة التي انعكست على اللباس العسكري الملون بالأحمر والأخضر والأصفر والنياشين والديكورات منحته بريقا خاصا أما لباس الراقصين والراقصات الملون والمزركش حسب تقاليد الجهات الروسية فقد أضفى رونقا خاصا على المسرح من الصعب أن لا تشعر به ومن الصعب أن لا تفتتن بجمال الأبدان والوجوه من جهة وبجمال الحركة وخفتها ورشاقتها من جهة ثانية. كانت الجوقة قد بعثت من أجل تقديم الدفع المعنوي للجيش الأحمر وقد صمدت كما هو باد للعيان بعد سقوط جدار برلين (1989) وبعد انهيار الإتحاد السوفياتي بل لم تفقد شعبيتها والدليل على ذلك الإستقبال الرائع الذي حظيت به من جماهير مهرجان قرطاج الدولي. يدوم عرض الجوقة ما يقرب من ساعة ونصف ولكنها ساعة ونصف غنية جدا بالألوان وباللوحات الراقصة وبالأغاني الجماعية والفردية. يقع استغلال الوقت بصرامة شديدة. لا تضيع ولو دقيقة واحدة. دخول الفنانين إلى الركح وخروجهم مدروس بدقة. العرض متقن جدا من الناحية الفنية وممتع جدا في مضمونه وهو لا يخلو من لحظات طريفة استمعنا فيها إلى الجماهير تضحك بالصوت العالي تجاوبا معها واستطرافا لها خاصة وأنها تأتي من فرقة عسكرية محكمة التنظيم ومنضبطة انضباطا عسكريا. العرض كان متنوعا جدا. يجمع بين الرقص والكوريغرافيا والغناء. اللوحات الراقصة متنوعة بدورها تجمع بين اللوحات العصرية وبين المشاهد التقليدية. قدمت الجوقة مثلا رقصة "الكالينكا "وهي من أشهر الرقصات الشعبية الروسيّة. وقدمت رقصة "الكوزاك "المعروفة التي نستمع فيها إلى قرقعة السيوف بيد المقاتلين الذين قدموا لوحات فنية جميلة تجمع بين القدرة على رفع السيف والخفة والقوة البدينة. الكوميديا جزء من العرض أغلب الأصوات في العرض رجالية كما أنّ الكورال يتكوّن من رجال فحسب لكن الجوقة قدمت الفنانة "ناتياليا غوركنسكايا" التي أدت من الريبرتوار العربي والفرنسي. من الأغاني الفرنسية كذلك استمعنا إلى أغنية " لو أنني كنت غنيا" وقد كان آداء أغنية "Le Bègue" من اللحظات الأكثر طرافة لأن الفنان قام بحركات تمثيلية تجاوبت معها الجماهير وضحكت وصفقت بحرارة. نوعت الجوقة في الأغاني وفي الألوان الموسيقية وراوحت بين الشعبي والأوبيرالي والديني على غرار"هافانغيلا"... وقد ألهبت أغنية " الأنترنسوينال" في خاتمة السهرة حماسة الجماهير حتى أنّهم حاولوا المشاركة في آداء الكلمات كما أن البعض منهم وتأثرا بما أثاره العرض فيه من احياء لبعض الذكريات أو حنين إلى الماضي ألقى شعارات تتغنى بالشيوعية وبالمبادئ الإشتراكية. كان لابد كذلك من فصل من العرض خاص بالحرب العالمية الثانية. ومن الطبيعي أن يفخر الجيش الأحمر بمساهماته في الحرب العالمية الثانية التي يجمع المؤرخون على أن هزيمة النازية والجيش الالماني بالتحديد كانت على الجبهة الروسية وليس في جبهات أخرى. هناك على الجبهة الروسية تكبد الجيش الألماني أكبر خسائره ولعلنا نشير في هذا السياق إلى أن بعث جوقة الجيش الأحمر كانت في البداية من أجل رفع معنويات المقاتلين على مختلف الجبهات وكانت الجوقة حينذاك تعدد من العروض على جبهات القتال. وإن كانت اللوحات الراقصة التي قدمت صورة عن التراث الفني الروسي وبالمناطق التي كانت تابعة للإتحاد السوفياتي قد شدت انتباه الجمهور فإن الكورال باللباس العسكري كان أكثر من مثير. لم نكن أمام مجموعة صوتية تكتفي بالترديد وراء المغنيين وإنما أمام شخصيات تتحلى بأصوات قوية وجميلة ولها دور حاسم في العرض بالآداء وبالحركات التمثيلية وبمفاجأتها للجمهور التي تكاد لا تنتهي. الجنرال فيكتور إيليساف الذي قاد العرض لم يكتف بدوره وتبين انه متعدد المواهب حيث رفع بدوره الميكروفون وساهم في الغناء. الكل تقريبا في الجوقة يتقنون الرقص والغناء والتمثيل وكلهم يجيدون الكوميديا كأفضل ما يكون. على مستوى الآلات المستعملة تعول جوقة الجيش الحر على آلات "البلالايكا" و"الدمرا "وهي آلات قريبة جدا من آلة العود إلى جانب آلة الباص الروسية والأكورديون الروسي (البيان) وغيرها وكلها آلات روسية. كانت نهاية الحفل على وقع التصفيق الحار للجماهير وعلى وقع الزهور وقد بانت على الجوقة الروسية علامات التأثر بالحفاوة التونسية. هبة حقيقية كانت على الاقراص المضغوطة للمجموعة إثر نهاية العرض وبمجرد أن أعلن أنه يمكن اقتناء هذه الأقراص عند مدخل المسرح حتى اصطفت الناس لشرائها مع العلم وأن الثمن لم يكن قليلا.