لحظات من السعادة الخالصة تلك التي قضاها جمهور مهرجان قرطاج الدولي في سهرة السبت مع البالي الروسي موسيّاف. العرض كان في مستوى ما يتمتع به هذا البالي من صيت وما وصلنا من اصداء حول قيمته الفنية العالية. الجمهور كان في الموعد وهذا امر اشعرنا بالارتياح دون شك لانه لو حدث عكس ذلك لكان الجمهور قد اضاع فرصة نادرة وربما لن تتكرر لمشاهدة عرض راق وممتع الى ابعد ما يمكن ان نتصوره.. ونستطيع ان نراهن على انه لم يحظ عرض الى الان بخلاف العروض الجماهيرية المعروفة بتصفيق كما حظي به بالي موسياف في عرضه بالمسرح الاثري بقرطاج.. كل الرقصات اثارت عاصفة من التصفيق ووقف الجمهور في نهاية العرض مطولا ودام التصفيق مدة غير معتادة في اعلان واضح عن القبول الحسن للبالي. واذا ما علمنا السبب، توقفنا عن التساؤل مثلا ما سر هذا النجاح وما سر الافتتان بعرض كالذي اقترحه بالي موسياف على الجمهور التونسي. ترتيب الصفوف اولا يبلغ عمر البالي سبعين عاما اما مؤسسه فله من العمر قرن كامل اي مائة سنة.. قضى منها 95 سنة في الاشتغال في الفن والرقص الفلكلوري تحديدا.. عرف ايغور موسياف كل المراحل وكان قد انخرط في الحياة الفنية منذ الخامسة من عمره. كان راقصا كبيرا، بل اسطورة في الرقص الفلكلوري الروسي واسس بعد ذلك مدرسة خاصة بالرقص والكوريغرافيا تتخرج منها الأجيال بعد الاجيال بعد الحصول على تكوين عماده الاتقان بغية الوصول الى درجة الكمال في اداء الرقصة.. هدف لا يتردد ازاءه ايغور موسياف في استعمال الصرامة الى درجة التشدد في التكوين ولكن قبل ذلك في اختيار المرشحين للدخول الى مدرسته التي تتكوّن في العادة من اساتذة تخرجوا على يديه. عمره مائة عام ومازال على رأس البالي الذي اسسه قبل سبعين عاما والذي زار به اغلب بلدان العالم ليحل بتونس هذا العام لاول مرة.. لم يكن ايغور موسياف برفقة البالي حيث اكتفى برسالة مؤثرة ارسلها الى تونس ولكنك تشعر به موجودا يرتب صفوف الفتيان والفتيات الذين قدموا عرضهم بالمسرح الاثري بقرطاج. كانوا حوالي ثمانين راقصا وراقصة يتميزون ببهاء الطلعة وامتلاك الصنعة. كانت البنات في خفة الفراشات وكان الاولاد كالفرسان المهرة. راقصون وراقصات تنفر الدماء الشابة من وجوههم يتقدون حماسا تشعّ من ابدانهم طاقة جياشة تجعلهم كما لو كانوا كائنات تدور في الفضاء دون ان تلمس الارض. انقسم العرض الى جزئين، الجزء الاول خاص بالرقص الفلكلوري الروسي الذي يعتبر ايغور موسياف قد ادخل عليه ثورة حقيقية من خلال تقنينه وتحويله الى مادة تدرس وقابلة للتطور باستمرار والجزء الثاني خاص برقصات من بلدان اخرى اذ ان ايغور موسياف معروف ايضا بنضاله من اجل التعايش السلمي بين الشعوب ومن أجل الانفتاح على الاخر مهما كانت ثقافته مختلفة. المفاجأة وفي الوقت الذي كان يستعد فيه الجمهور لمغادرة المسرح كانت المفاجأة على الركح.. مجموعة من الراقصات ارتدين اللباس الشرقي ليؤدين «رقصة البطن» الشهيرة كتحية للجمهور التونسي ومن خلاله الجمهور العربي ككل وسط اعجاب الجمهور وانبهاره بالحركة. انطلق العرض برقصة «الصيف» وهي رقصة صمّمت خصيصا لاظهار اجواء الفرح والمتعة، اللباس يتناسب مع الرقصة وخاصة لباس الفتيات الفساتين الحمراء الخفيفة تبعث في النفس نشوة خاصة اما الحركة على الركح فقد كانت خفيفة الظل، رشيقة وقد زادت الابتسامة على وجوه الراقصين والراقصات الاجواء انشراحا اما دقة الرقصة وتناسق حركة يدي الراقص والراقصة وحركة الساقين لا نستطيع ان نقول عنها انها عفوية، اذ تبدو الامور مدروسة ومضبوطة بوضوح لكن موهبة الراقصين والراقصات وتمكنهم من هذا الفن تجعل رقصاتهم تبدو عفوية وخالية من اي قوانين الامر الذي جعلهم يستحوذون كامل السهرة على اهتمام الجمهور الذي لم يتوقف عن التشجيع والتعبير عن الاعجاب. رقصة المقاومة من بين اللحظات الاكثر قوة الى العرض تلك اللوحة الاسطورة كان ايغور موسياف قد صممّها واشتهر بادائها ثم ورثها عنه تلاميذه الأمر يتعلق برقصة المقاومة، مقاومة النازية تحديدا.. رقصة استعملت فيها السيوف ولباس الجنود وكذلك عباءة القوقاز.. اللوحة ركزت على التعبير الجسماني وعلى الجانب التمثيلي وقد اعقبتها عاصفة من التصفيق تكاد لا تنتهي. البحرية على ركح المسرح الاثري تم بنفس العرض تأدية عدة رقصات من بينها واحدة مستمدة من التقاليد الاسلامية لمدينة جورجيا واخرى مستمدة من التقاليد الروسية. نقطة القوة الاخرى في هذا العرض تتمثل في الملابس. كنا ازاء كرنفال حافل.. الوان واقمشة وتطريزات، ألوان مشعة تجمع بين الذهبي والزهري والاحمر وحتى الأسود خاصة لدى الشبان الذي اظهر تقاطيع اجسادهم الرياضية المصقولة والتي اضفت على العرض اجواء من البهجة. لا بد من الاعتراف ان اجساد الراقصين والراقصات على حد السواء المنحوتة نحتا تضاعف من جمال الثياب وتعطيها رونقا خاصا. الجزء الثاني من الحفل كان عالميا.. تم تقديم رقصات فلكلورية يونانية ومن فنزويلا ومن الارجنتين لكن افضلها على الاطلاق رقصة البحرية، رجال البحرية بلباسهم الكلاسيكي وايحاءاتهم كادوا يحولون ما هو افتراضي الى حقيقي لكن عموما يصعب الاختيار بين هذه اللوحة والاخرى فالرقصات والموسيقى والملابس وجمال الشبان والشابات والقهم كلها عوامل اجتمعت لمنح الجمهور لحظات نادرة كانوا فيها في حالة انتشاء تقود عادة الى حالة اشبه بالرضا، حالة لا تحصل الا في عرض في قيمة ذلك الذي اقترحه بالي موسياف الروسي على جمهور مهرجان قرطاج الدولي.