في الذكرى ال40 لحرب العاشر من رمضان (أكتوبر 1973) نزلت حشود هائلة الى الشوارع والساحات و"الميادين" العامة في القاهرة والاسكندرية وجل المدن المصرية.. تناسى الحشود من الطرفين أبطال حرب 10 رمضان.. وحاول أنصار عودة الرئيس المعزول وخصومهم البرهنة على شعبيتهم وجماهيريتهم.. فأقنعوا بأن "مصر أصبحت فعلا مقسمة" بين تيارين عريضين: الأول قادته في "ميدان التحرير"، والثاني في "ميدان رابعة العدوية" وساحات جامعة الأزهر والجيزة والصعيد .. ولا يختلف اثنان أن ما يجري في الشقيقة الكبرى مصر منذ بروز حركة " تمرد 30 يونيو " (جوان) قبل أسابيع.. ثم منذ انقلاب 3 جويلية، يوشك أن يعيد المنطقة إلى مرحلة "ما قبل الربيع العربي".. وما قبل بدء مسلسل التغييرات السياسية في عدد من العواصم العربية.. "بضوء أخضر أمريكي ودولي".. أولويات جدية للبنتاغون؟ والأسئلة التي تفرض نفسها في هذا السياق كثيرة ومعقدة ومتداخلة لعل أبرزها: هل تغيرت أولويات واشنطن وحلفائها في المنطقة لصالح "الأولويات الأمنية" بعد أن أعلنت أنها أصبحت تعطي أولوية "للأولويات السياسية والتنموية"؟ وهل انتصر مجددا "صقور" البنتاغون والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية على الديبلوماسيين وقادة الخارجية والبيت الأبيض دعاة الحلول السياسية والحوار؟ وهل اقتنع صناع القرار الأمني والعسكري الأمريكي في البنتاغون وخارجه ببعض "تحاليل" المؤسسات الأمنية والعسكرية الاسرائيلية التي تعتبر أن "تعثر الليبيراليين والديمقراطيين العرب" ثم تطورات الأوضاع في مصر مؤشرات على كون قادة النخب والشعوب العربية وحكامها ليسوا مهيئين فعلا للديمقراطية والتداول السلمي على السلطة؟ العرب لا يمكن أن يكونوا ديموقراطيين؟ وهل لم يقتنع كبار المسؤولين في البنتاغون والمؤسسات الاستخباراتية الأمريكية بوجهة نظر حلفائهم العرب بأن تعثر الساسة وصناع القرار المنتخبين في مصر (وفي بلدن الربيع العربي) يثبت أن الديموقراطية لا تعني فقط التفوق في صناديق الاقتراع وتطبيق قاعدة: صوت لكل ناخب (one man one vote)، بل استعدادا حقيقيا للعمل المشترك وتقديم تنازلات للخصوم والمنافسين.. وهو "أمر مستحيل لأن الثقافة السائدة بين العرب إقصائية وتتناقض مع روح الديمقراطية الغربية"؟ وهل يمكن الحديث عن ديمقراطية ونظام ديموقراطي في وقت يكون فيه غالبية الساسة وصناع القرار ونشطاء المجتمع المدني من بين "المتحزبين" وممن لديهم مصالح وأجندات "خاصة" ومواقف مسبقة يعطونها أولوية مطلقة.. رغم تغنيهم بالحوار والديموقراطية والتوافق والتداول السلمي على السلطة؟ القطع مع "الاسلام السياسي"؟ الا أن الملف الأكبر والتحدي الأخطر مرتبط بإجابات قادة واشنطن والغرب على سؤال مركزي أكثر وضوحا يقول: هل يعني الاعتراف الأمريكي بالانقلاب والسلطات التي أفرزها في مصر تراجعا غربيا عن دعم حركات "الإسلام السياسي" بعد عامين على مراهنة باراك أوباما وقادة الدول المصنعة الثمانية في قمتهم بفرنسا في 2011 على "عدم التناقض بين الإسلام والديمقراطية" وعلى تشريك "الإسلاميين المعتدلين" في اللعبة السياسية لضرب "المتشددين" بزعامة تنظيم "القاعدة" والجماعات المسلحة؟ هل سيقع القطع مع كل قادة "الاسلام السياسي" بما سوف يؤدي الى الى العودة الى المقولات التي ترفض التمييز بين معتدلين ومتطرفين، ونشطاء عنيفين وآخرين أقل عنفا داخل الجماعات الاسلامية والاحزاب الدينية؟ النقد الذاتي.. وحوار الطرشان أم أن ما جرى في مصر مقدمة لاعلان "نهاية الديمقراطية" والعودة بالمنطقة الى "المربع الاول".. مربع الأنظمة العسكرية البوليسية.. بحجة تورط الساسة الذين استلموا مقاليد الأمور بعد الانتخابات في أخطاء بالجملة ضد خصومهم وتعامل بعضهم مع شعوبهم بعقلية "حزبية وتنظيمية" وليس بعقلية توافقية؟ تساؤلات تطرح نفسها بالجملة على العقلاء في كلا "المعسكرين".. وتفرض عليهم جميعا التواضع امام شعوبهم والقيام بنقد ذاتي علني يمهد للحوار النزيه.. والناجع والمثمر.. والابتعاد عن الدعاية والدعاية المضادة.. وعن منطق "حوار الطرشان".. لجان حكماء.. وتوافق ؟ لا يزال تدارك الاوضاع ممكنا اذا بادرت لجان حكماء قد يشكلها أعضاء البرلمان المنتخب - الذي وقع حله في تنظيم حوارات سياسية تشمل كل الاحزاب والتيارات دون إقصاء ولا استثناءات.. تمهيدا لانتخابات جديدة لا يتحكم في نتائجها مسبقا أي طرف.. بما في ذلك العسكر وقيادات الاخوان المسلمين.. أما إذا تمادى كل طرف في استخدام ورقة الشارع وأوراقه الدولية فقد تفلت المبادرة من أيدي كل الاطراف الوطنية.. وتصبح القوى الاجنبية سيدة الموقف بأموالها القذرة وأسلحتها وأجنداتها التي قد تدفع مصر نحو "فوضى خلاقة" على غرار ما يجري منذ مدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا.. بعد تدمير "الدولة الوطنية" وسلطات الحكم المركزية.. تحت يافطات "ثورية"..؟! وفي كل الحالات فإن التطورات في الشقيقة مصر ستكون حاسمة.. لأنها "أم الدنيا".. وتأثيرها الثقافي والسياسي عربيا ودوليا يفوق كل التقديرات.. والأخطر من كل السيناريوهات السياسية التوافقية "مهما كانت مؤلمة" نشر عقلية "خيبة الأمل" ودفع النشطاء الذين آمنوا يوما بالديموقراطية نحو "الحلول اليائسة".. أي نحو العنف والارهاب.. ومسلسلات الثأر والثأر المضاد..