ما مدى توفر المختصين الاجتماعيين والنفسيين ومكاتب الإصغاء والإرشاد بالعدد المطلوب؟ تونس-الصباح: المدرسة اليوم في ظل التغيرات الإجتماعية العديدة ،انطلاقا من التحولات داخل العائلة في ظل تناقص دور الإحاطة والرعاية والتربية داخلها جراء نسق الحياة السريع وانشغال الأولوياء وشبه استقالتهم من مسؤولية متابعة حاجيات الأبناء المختلفة النفسية والتربوية، وانطلاقا من التحولات داخل المدرسة في حد ذاتها في ظل نشوء سلوكيات جديدة ومشاغل جديدة في علاقة التلميذ بالمدرسة وفي علاقته بالمعلم وبأترابه وتنامي بعض المظاهر المحفوفة بالمخاطر على غرار العنف اللفظي والجسدي والتسرب والانقطاع المدرسي... إلخ، أصبحت مدعوة أكثر من أي وقت لأن لا يقتصر دورها على النواحي البيداغوجية التعليمية الصرفة بل العمل إلى جانب ذلك على توفير الإحاطة والتأطير النفسي الصحي والإجتماعي وإدراجه ضمن النظام الإصلاحي التربوي بالمؤسسات التربوية في مختلف المستويات التحضيرية والإعدادية وصولا إلى الجامعة ومرحلة التعليم العالي. لكن هل يتوفر اليوم التأطير النفسي والاجتماعي بالمؤسسة التربوية بالحجم والكيفية المناسبة القادرة على الاستجابة لحاجيات التلميذ في مختلف مراحل دراسته؟ بمعنى آخر هل تؤمن مدرستنا بدور عالم الإجتماع والمرشد الإجتماعي وعالم النفس والطبيب المدرسي والجامعي... في العملية التربوية وفي توفير مناخ داخل المؤسسة التربية يلبي مختلف حاجيات التلميذ ويجعل الفضاء المدرسي فضاء تعليم وتربية وتثقيف صحي ونفسي يؤسس في النهاية إلى مشروع مواطن صالح في المجتمع سليم ومتزن منفتح ومطلع ومندمج في المؤسسة التربوية وخارجها؟ وماذا عن عمل خلايا ومكاتب الإنصات والإرشاد التربوي الموجودة حاليا ذات الإشراف المشترك بين وزارة التربية والتكوين ووزارة الشؤون الإجتماعية ووزارة الصحة؟ أهمية التنشئة الاجتماعية والنفسية يلح المختصون في علم الإجتماع التربوي وفي علم النفس وعلوم التربية على أن الإصلاح التربوي اليوم لا يقتصر على إصدار القوانين وأوامر تنظيم الحياة المدرسية بل يجب العمل على إصلاح بعض الجوانب الأخرى من بينها المنظومة العلائقية داخل المنظومة التربوية. ونذكّر في هذا الصدد بما ورد في وقت سابق على لسان أحد علماء الاجتماع التربوي من أن الإصلاح هو رؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه التربية عموما من التعليم مرورا بالتعلم ووصولا إلى التنشئة الاجتماعية والنفسية السليمة هذا بالإضافة إلى اعتبار الصحة النفسية جزء لا يتجزأ من الثقافة التربوية داخل القسم وخارجه... وفي دراسة حول الصحة النفسية والثقافية والتربوية واردة في نشرية "أنوار" الصادرة عن المركز الجهوي للتربية والتكوين المستمر بزغوان يرد على لسان الأستاذ طارق بن الحاج محمد (باحث في علم الإجتماع) أن المدرسة هي مؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية وكلما أدت دورها التربوي على أحسن وجه وازدادت كفاءتها الداخلية والخارجية ليس في ميدان التعليم فحسب بل وفي مجال التربية القويمة. فكل ما يكتسبه الفرد من فضائل وخصال وكلما يترسخ لديه من خصائص مثل حدة الوعي والتفكير البناء وقوة الإرادة والخصائص الأخلاقية الرفيعة وتماسك الشخصية إنما يأتي على حد تعبيره نتيجة تفاعل الفرد مع غيره في وسط اجتماعي رصين ومنظم تمثله المدرسة وذلك من أجل جعلها مكانا للتنشئة الإجتماعية السليمة. صعوبات وعراقيل وتمر التنشئة الإجتماعية السليمة في المؤسسة التربوية من باب النجاح في مساعدة المتعلم على تجاوز جملة من العراقيل والصعوبات التي تواجهه وقد تكون جذورها من خارج المدرسة أي من واقعه العائلي والإجتماعي غير أنه يأتي بها إلى الوسط المدرسي وكثيرا ما نجد من يعاني من عدم القدرة على التكيف الإجتماعي ومن يتميز بسلوكيات عنيفة وغير سوية أو من هو منطو ومنزو وغير قادر على التواصل ومن له مشاكل صحية ونفسية تنعكس على مردوده التعليمي... ونشير في هذا السياق أنه تم إحداث برنامج وطني منذ سنة 1991 بالتعاون بين وزارتي الشؤون الإجتماعية والتربية والتكوين وذلك في إطار خطة وطنية للدفاع الإجتماعي ومساعدة التلميذ على تجاوز الصعوبات والعراقيل التي تواجه مساره الدراسي سواء كانت صعوبات اجتماعية أو صحية أو نفسية أو بيداغوجية. وتسهر على تنفيذ البرنامج خلايا العمل الإجتماعي المدرسي التي تستهدف أساسا المهددين بالطرد والمرتقين بالإسعاف والمحالين على مجالس التربية والراسبين والتلاميذ الذين يعانون من صعوبات تعوقهم على متابعة دراستهم بشكل طبيعي والتلاميذ الذين يظهرون سلوكيات منافية لقواعد الحياة المدرسية. ويسعى أعضاء خلايا العمل الإجتماعي المدرسي إلى تمكين التلاميذ حسب ظروفهم الخصوصية من عديد الخدمات من بينها الإحالة على العيادات الطبية لتشخيص حالته الصحية ومعالجتها وتأطيره نفسيا عن طريق الانصات والرعاية الإجتماعية الملائمة له ولأسرته والعمل أيضا على تقديم مساعدات مادية في صورة إحتياجه. لكن ماذا عن توفر هذه الهياكل بالعدد المطلوب والامكانيات اللازمة في ظل تنامي حاجيات التلميذ من التأطير الإجتماعي والنفسي والبيداغوجي؟ خلايا ومكاتب الإصغاء والإرشاد انطلاقا من توصيات الملتقى الوطني السادس لخلايا ومكاتب الإصغاء والإرشاد للسنة الماضية نستطيع تبين وجود جملة من العراقيل تواجه بدورها خلايا ومكاتب الإصغاء والإرشاد في الوسط التربوي وقد تحد من فاعلية هذه الهياكل وقيامها بدور التأطير والإحاطة المطلوب منها. من ذلك غياب هيكل موحد معروف من طرف كل المتدخلين ذات الصلة بالنظام التربوي ويكون هذا الهيكل متواصلا من التعليم الإبتدائي مرورا بالإعدادي والثانوي وصولا إلى التعليم العالي وذلك لضمان الاستمرارية والشمولية. تبين كذلك من خلال تقييم الهياكل الموجودة أن التطور البياني لهذه الهياكل يسير نحو التراجع العددي (عددالاجتماعات، عدد المقبلين، عدد المتعهد بهم...). كما أشارت التوصيات كذلك إلى أهمية التكوين التقني للقائمين بالإصغاء والإرشاد (الرعاية النفسية والبيداغوجية والإجتماعية) بما يضمن نجاعة هذه البرامج. ودعت التوصيات أيضا إلى تشريك الجمعيات والمجتمع المدني في معاضدة عمل هياكل الإحاطة والإرشاد والإصغاء في الوسط التربوي والعمل على تدعيم هذه الهياكل من حيث العدد والمتدخلين والعمل أحيانا على تهئية فضاءات لمكاتب الإصغاء (في التعليم العالي خاصة) في مكان مناسب وقار يحترم السرية لحماية المصغي إليه إلى جانب العمل على دعم نشاط الإحاطة النفسية بالطلبة بمتدخلين في مجال العمل الإجتماعي... هذا إلى جانب العمل على المتابعة الدورية لعمل الهياكل في مختلف الأوساط التربوية والمراحل التعليمية والتقييم الدوري لنتائجها...