صفاقس شاطئ الشفار بالمحرس..موسم صيفي ناجح بين التنظيم والخدمات والأمان!    أخبار مستقبل قابس...عزم على ايقاف نزيف النقاط    نفذته عصابة في ولاية اريانة ... هجوم بأسلحة بيضاء على مكتب لصرف العملة    استراحة «الويكاند»    مع الشروق : العربدة الصهيونية تحت جناح الحماية الأمريكية    توقّف مؤقت للخدمات    28 ألف طالب يستفيدوا من وجبات، منح وسكن: شوف كل ما يوفره ديوان الشمال!    محرز الغنوشي:''الليلة القادمة عنوانها النسمات الشرقية المنعشة''    ميناء جرجيس يختتم موسمه الصيفي بآخر رحلة نحو مرسيليا... التفاصيل    عاجل/ المغرب تفرض التأشيرة على التونسيين.. وتكشف السبب    رئيس "الفيفا" يستقبل وفدا من الجامعة التونسية لكرة القدم    عاجل/ عقوبة ثقيلة ضد ماهر الكنزاري    بنزرت: مداهمة ورشة عشوائية لصنع "السلامي" وحجز كميات من اللحوم    هذا ما قرره القضاء في حق رجل الأعمال رضا شرف الدين    الاتحاد الدولي للنقل الجوي يؤكد استعداده لدعم تونس في تنفيذ مشاريعها ذات الصلة    عفاف الهمامي: أكثر من 100 ألف شخص يعانون من الزهايمر بشكل مباشر في تونس    رابطة أبطال إفريقيا: الترجي يتجه إلى النيجر لمواجهة القوات المسلحة بغياب البلايلي    الترجي الجرجيسي ينتدب الظهير الأيمن جاسر العيفي والمدافع المحوري محمد سيسوكو    عاجل/ غزّة: جيش الاحتلال يهدّد باستخدام "قوة غير مسبوقة" ويدعو إلى إخلاء المدينة    عائدات زيت الزيتون المصدّر تتراجع ب29،5 بالمائة إلى موفى أوت 2025    دعوة للترشح لصالون "سي فود إكسبو 2026" المبرمج من 21 إلى 23 أفريل 2026 ببرشلونة    قريبا: الأوكسجين المضغوط في سوسة ومدنين... كيف يساعد في حالات الاختناق والغوص والسكري؟ إليك ما يجب معرفته    أريانة: عملية سطو مسلح على مكتب لصرف العملة ببرج الوزير    سطو على فرع بنكي ببرج الوزير اريانة    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    عاجل: تونس تنجو من كارثة جراد كادت تلتهم 20 ألف هكتار!    بعد 20 عاماً.. رجل يستعيد بصره بعملية "زرع سن في العين"    توزر: حملة جهوية للتحسيس وتقصي سرطان القولون في عدد من المؤسسات الصحية    10 أسرار غريبة على ''العطسة'' ما كنتش تعرفهم!    عاجل- قريبا : تركيز اختصاص العلاج بالأوكسيجين المضغوط بولايتي مدنين وسوسة    وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد زعيم جماعة الحوثي..# خبر_عاجل    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    مجزرة بقصف لقوات الدعم السريع على مسجد في السودان    شنية حكاية النظارات الذكية الجديدة الى تعمل بالذكاء الاصطناعي...؟    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو الحكومة إلى تدخل عاجل لإنقاذ المنظومة    بلاغ مهم لمستعملي طريق المدخل الجنوبي للعاصمة – قسط 03    مجلس الأمن يصوّت اليوم على احتمال إعادة فرض العقوبات على إيران    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    عاجل : شيرين عبد الوهاب تواجه أزمة جديدة    المعهد الوطني للتراث يصدر العدد 28 من المجلة العلمية "افريقية"    افتتاح شهر السينما الوثائقية بالعرض ما قبل الأول لفيلم "خرافة / تصويرة"    جريمة مروعة/ رجل يقتل أطفاله الثلاثة ويطعن زوجته..ثم ينتحر..!    محرز الغنوشي يزّف بشرى للتوانسة: ''بعض الامطار المتفرقة من حين لاخر بهذه المناطق''    شهداء وجرحى بينهم أطفال في قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة..# خبر_عاجل    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    هذه الشركة تفتح مناظرة هامة لانتداب 60 عونا..#خبر_عاجل    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    تصدرت محركات البحث : من هي المخرجة العربية المعروفة التي ستحتفل بزفافها في السبعين؟    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    خطبة الجمعة .. أخطار النميمة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رأي / المصالحة الوطنية.. بوابة الوحدة الوطنية لبناء دولة القانون والتقدم والمواطنة
نشر في الصباح نيوز يوم 11 - 05 - 2015

تنشر "الصباح نيوز" مقال رأي للأستاذ فاخر القفصي محام مختص في مجالات الإنتقال الديمقراطي حول مبادرة المصالحة الوطنية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي.
وفي ما يلي نص المقال:
أعلن رئيس الجمهورية بمناسبة الإحتفال بعيد الإستقلال يوم 20 مارس، عن مبادرة المصالحة الوطنية التي جاءت عامة غير مفصلة، مقتصرة على طرح الفكرة من حيث المبدأ وبيان خطوطها العريضة المتمثلة في بعديها السياسي والإقتصادي، والتأكيد على أنها لا ترمي الى افلات من ثبت ضلوعه في انتهاك حقوق الإنسان أو في الفساد من المسائلة و أن المحاكم العدلية تتكفل بتسليط العقاب عليه.
الجميع متفق حول ضرورة المصالحة الوطنية، لكن الإختلاف يكمن في زمن تدخلها وفي الجهة التي تحققها، هيئة الحقيقة والكرامة تعتبر أن المسألة من مشمولاتها وأن المصالحة لا تتحقق الا بعد كشف الحقيقة والمحاسبة، في حين يرى أصحاب هذه المبادرة أنها تتزامن مع بقية آليات العدالة الإنتقالية، كما يمكن اجراؤها خارج اطار هيئة الحقيقة والكرامة، دون المساس بمسار العدالة الإنتقالية.
من المهم عند الخوض في مبادرة المصالحة الوطنية وعلاقتها بمسار العدالة الإنتقالية وبهيئة الحقيقة والكرامة، التوقف عند السياقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية التي أطلقت فيها المبادرة ومدى ضرورتها الحيوية والإٌستراتيجية (1) وعدم تعارضها مع فلسفة وأهداف العدالة الإنتقالية وخاصيات آلياتها (2) وما تمثله من تجسيد لأمر واقع واستجابة لخيار شعبي (3) والتي من الممكن بل من المتجه تحقيقها خارج اطار هيئة الحقيقة والكرامة التي أظهرت منذ البداية قصورها في انجاح المسار بسبب ما تفتقر اليه تركيبتها من اجماع ومن مصداقية وبسبب تعارض القانون الأساسي عدد 53 في عديد فصوله مع المبادئ الجوهرية للعدالة الإنتقالية (4) لننتهي الى رسم ملامح هذه المبادرة (5(
1 السياقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية لمبادرة المصالحة الوطنية : ضرورة حيوية واستراتيجية:
وردت المبادرة في ظرف تمر فيه تونس بصعوبات اقتصادية ما فتئت تتفاقم، وبأوضاع أمنية حساسة سيطر عليها خطر الإرهاب، بعد أقل من ثلاثة أيام على حصول الهجوم الهمجي الدموي على متحف باردو، الذي يعتبر تغييرا جذريا في مخططات العصابات الإرهابية التي أصبحت تستهدف المدن ومواقع السيادة ومؤسسات الدولة ( مجلس نواب الشعب) والإرث الحضاري والثقافي والتاريخي للشعب ( متحف باردو ) والسياحة ( استهداف السياح)،
نفذت هذه العملية، التي سبقتها عدة عمليات استهدفت عناصر من الأمن ومن الحرس ومن الجيش، بعد بضع أشهر من انتخابات تشريعية ورئاسية حرة ونزيهة، وبعد أقل من شهرين على تعيين الحكومة التي يعلق عليها الشعب آمالا كبيرة في تنفيذ برنامج انقاذ اقتصادي واجتماعي يساير الإصلاحات السياسية العميقة المتجسدة في تركيز مؤسسات الدولة.
ان التحديات المطروحة على الدولة وعلى المجتمع السياسي والمدني مختلفة ومتداخلة : السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية، ويقتضي النجاح في الخروج بالبلاد من هذه الأزمة متعددة الأوجه أن تتركز الجهود وتتظافر وتتوحد البرامج والأهداف والأولويات في سبيل غاية واحدة : انقاذ تونس من الإرهاب ومن الإنهيار الإقتصادي، وانجاح المسار الديمقراطي.
ان بلوغ هذه الأهداف الكبرى لن يتحقق الا بمجهود الجميع، لن يتحقق الا بوحدة وطنية حقيقية، وحدة وطنية صماء، هي سبيلنا لبناء تونس الديمقراطية، تونس التقدم، تونس الحرية، تونس المستقبل.
ولا يمكن أن نتحدث عن الوحدة الوطنية في ظل رفض بعضنا لبعضنا الآخر، وفي ظل رغبات الإقصاء والإتهامات المتبادلة، لابد من تنقية الأجواء بخلق مناخ من الثقة : ثقة بين المجتمع والدولة وثقة فيما بين جميع مكونات المجتمع. لا بد من مصالحة وطنية، الآن الآن وليس غدا.
2 فلسفة العدالة الإنتقالية وخاصيات آلياتها تدعم مبادرة المصالحة الوطنية:
العدالة الإنتقالية عدالة استثنائية تتدخل في فترة زمنية محددة لاستشراف المستقبل لا للإنحباس في الماضي:
يجدر التأكيد بأن مسار العدالة الإنتقالية هو مجموع الآليات المعتمدة للتوجه نحو المستقبل بعد تصفية تركة الماضي وتضميد جراح المجتمع مما خلفته انتهاكات حقوق الإنسان، هذا المسار الذي يطلقه شعب معين خلال فترة الإنتقال الديمقراطي لتيسير وتسهيل تحقيق هذا الهدف عبر آلياته التي تمكن من مجابهة الماضي بمحاولة فهم حقيقة الإنتهاكات وسياقاتها السياسية والتاريخية والمنظومات المؤسساتية والتشريعية التي أدت أو سهلت وقوعها واستمرارها، وبمحاولة إدماج الضحايا من جديد في المجتمع عبر إسماع أصواتهم وجبر أضرارهم، وإقرار المسؤولية عن الإنتهاكات حتى يمكن استخلاص العبرة، ووضع التشريعات وإرساء المؤسسات الكفيلة بوقاية المجتمع من تكرارها. نلاحظ اذن أن فلسفة العدالة الإنتقالية تكمن في المساعدة على إعادة تشكيل مؤسسات الدولة في اتجاه دولة القانون، وعلى إعادة صياغة علاقات جديدة بينها وبين المجتمع، ولا يمكن أن تتحول العدالة الإنتقالية الى هدف في حد ذاته، هي مجرد وسيلة من مجمل وسائل الإنتقال الديمقراطي التي يجب أن تدفعنا إلى المستقبل لا أن تحبسنا في الماضي.
وباعتبار أنها عدالة استثنائية ومؤقتة ومرتبطة عضويا بفترة محددة هي الفترة الفاصلة بين سقوط نظام وبناء نظام جديد قوامه الديمقراطية وأساسه قناعة الجميع بضرورة التعايش والقبول بالعيش المشترك والمصير المشترك، فانه لا يمكن تبني أو تفعيل هذا المسار خارج إطار فترة الإنتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي، وبذلك فلا معنى لهذا المسار إذا تم تجاوز هذه الفترة.
آليات العدالة الإنتقالية متزامنة ومتداخلة وليست متعاقبة:
ان التعامل مع آليات العدالة الإنتقالية على أنها متعاقبة بالضرورة، تتدخل الواحدة تلو الأخرى، سيؤدي الى تعطيل المسار الديمقراطي و استدامة جو الإحتقان وتقوية مشاعر ورغبات وثقافة الإقصاء.
فالقول بأن المصالحة لا يمكن أن تقع الا بعد كشف الحقيقة وبعد المحاسبة قول لا معنى له وفيه مغالطة، باعتبار أن المصالحة مثلها مثل بقية الآليات هي آلية وهدف ونتيجة في نفس الوقت، آلية بوصفها وسيلة ومصدرا من أهم مصادر كشف الحقيقة عندما يقر ويعترف المسؤول عن الإنتهاك بما قام به من انتهاكات، وهدف بوصفها تؤسس لإعادة تأهيل المسؤولين عن الإنتهاكات أو من مارسوا أو استفادوا من الفساد، وادماجهم، في اطار ما يعرف باعادة التوظيف السياسي للكوادر السابقة، في النسق المجتمعي الجديد القائم على منظومات تشريعية ومؤسساتية أساسها الحوكمة الرشيدة والشفافية والرقابة، وهدف أيضا بوصفها من ناحية أخرى تؤسس للوحدة الوطنية، وهي نتيجة لتفعيل مسار العدالة الإنتقالية.
ان كشف الحقائق والمصالحة آلتين مهمتين في مسار العدالة الإنتقالية، ناهيك أن معظم اللجان والهيئات التي اعتنت بتحقيق هذا المسار كانت تسمى لجانا للحقيقة والمصالحة، تلبية لمطالبات الشعوب التي توّجت باقرار المجتمع الدولي ( ممثلا في منظمة الأمم المتحدة ) الحق في معرفة الحقيقة كحق انساني تضمنته المواثيق والمعاهدات الدولية، وتحيلنا التجارب المقارنة الى أن المصالحة كانت آلية فعالة ومهمة في كشف الحقائق، على غرار ما حصل في المغرب أو في جنوب افريقيا أو في الشيلي وفي عديد التجارب الأخرى، لقد استفادت شعوب هذه البلدان من آلية المصالحة لكشف حقائق الإنتهاكات، اذن فالمصالحة تتدخل منذ البداية في مسار العدالة الإنتقالية في تزامن وتداخل مع باقي الآليات.
كما مثلت علاقة المصالحة بالمحاسبة معظلة تعرضت لها كل التجارب، فهي خاضعة لجدالات سواء بين السياسيين أو مكونات المجتمع المدني أو عائلات الضحايا، فمنهم من يدعو إلى القصاص ويروج للغة الانتقام والتطهير ومنهم من يدعو إلى المحاسبة التي لا تعرقل عملية الانتقال الديمقراطي بقدر ما تساعد على تحقيق المصالحة دون المس من مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
يبقى من المتأكد تحديد ماهية المحاسبة، فالفهم الرائج بأنها تقتصر على المحاكمة القضائية فهم سطحي ومنقوص، اذ أن منظومة المحاسبة في اطار العدالة الإنتقالية أوسع من التتبع الجزائي والإدانة والحكم بالسجن، فهي تشمل تحديد المسؤوليات واقرارها ومن ثم تحميل المسؤولية سواء للدولة أو للأفراد المسؤولين عن الإنتهاكات، وتبين التجارب المقارنة أن هناك من تبنى تحديد المسؤوليات وتحميلها للدولة فقط وهناك من حدد المسؤوليات وحمّلها للمسؤولين الفعليين عن الإنتهاكات ( التتبع الجزائي) وهناك من تبنى تحميل المسؤولية للدولة وفي نفس الوقت أبقى على حق الضحايا في تتبع الأفراد المسؤولين عن الإنتهاكات.
كذلك لابد من رفع اللبس حول مفهوم المصالحة التي يبتذلها البعض في العفو عن المسؤولين عن الإنتهاكات ( بما يعبر عنه " بوس خوك "، لا، ان للمصالحة أبعادا ثلاثة وهي : 1/ مصالحة المجتمع مع ماضيه 2/ مصالحة المجتمع مع الدولة 3/ مصالحة الضحية مع المسؤول عن الإنتهاك،
خلاصة القول، ان الوعي بضرورة المصالحة يعكس مدى انتقال المجتمع من طور المحاسبة خارج اطار القانون، والإنحباس في الماضي الأليم وعدم التحكم في مشاعر التشفي والإنتقام والإقصاء، الى طور العقلانية: عقلانية مجابهة الماضي بكل شجاعة بغية المرور الى المستقبل، عقلانية تحويل الآلام الذاتية الشخصية الى منظومات مجتمعية ومؤسساتية تضمن عدم تكرار مآسي الماضي.
3 مبادرة المصالحة الوطنية تجسيد لأمر واقع واستجابة لخيار شعبي
من أهم أهداف لجان الحقيقة اصدار تقرير نهائي يتضمن في جزء من أجزائه الأساسية والمحورية توصيات دقيقة ومفصلة ومعمقة باصلاح التشريعات والمؤسسات.
لابد من التأكيد في هذا الباب على أن الإصلاح المؤسساتي الذي يعتبر آلية من آليات مسار العدالة الإنتقالية تم انجاز جانب كبير منه خارج اطار هذا المسار دون أن يثير ذلك حفيظة أحد، فتم سن دستور 26 جانفي 2014، واجراء انتخابات حرة ونزيهة لنواب مجلس الشعب ولرئيس الجمهورية، وتركيز المؤسسات الدائمة للدولة ( مجلس نواب الشعب ورئاسة الجمهورية والحكومة وقريبا الهيئات التعديلية والرقابية المستقلة على غرار المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء، .....) خارج اطار مسار العدالة الإنتقالية دون انتظار كشف الحقيقة المتعلقة بالمنظومات القديمة.
لم تعارض هيئة الحقيقة والكرامة مثلا السعي لإصدار قانون متعلق بالمجلس الأعلى للقضاء بحجة انتظار كشف حقيقة فساد منظومة القضاء ومساهمتها في حصول الإنتهاكات، وانتظار توصياتها في هذا المجال لاعتمادها في بناء المنظومة الجديدة.
يمكن الجزم اذن بأن العدالة الإنتقالية لم تنطلق مع هيئة الحقيقة والكرامة بل نلمس لبناتها الأولى وتطبيقات عديدة لآلياتها مباشرة إبان الثورة، فقد شهدت تونس عدة محاكمات إما لرموز النظام السابق أو لمتهمين بضلوعهم في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
كما صدرت إبان الثورة مراسيم تتعلق بالعفو التشريعي العام وبالتعويض للضحايا من جرحى وعائلات الشهداء وبمصادرة أملاك الرئيس الفار وعائلته وأصهاره ومن انتفع من قرابته بهم للإثراء بدون وجه حق، وأنشأت الهيئة العليا المستقلة لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي التي كان أغلب أعضائها من المجتمع المدني والسياسي، والتي توصلت الى تركيز البوادر الأولى للقطيعة مع المنظومة القانونية والمؤسساتية السابقة، ونجحت في بلورة التوافق السياسي الواسع، وحصّلت الإجماع حول المسار الإنتخابي، وإرساء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي أشرفت على انتخابات 23 أكتوبر 2011، كما أنشأت لجنتين وطنيتين لتقصي الحقائق حول أحداث الثورة وحول الفساد والرشوة اللتان أنجزتا مهامهما وتولتا اعداد تقريرين تضمنا كشفا لجانب مهم من الحقائق وتوصيات معتبرة.
هذا في ما يتعلق بانسجام مبادرة المصالحة الوطنية مع الواقع : واقع انطلاق مسار العدالة الإنتقالية في عديد مظاهرها وآلياتها بعد الثورة مباشرة.
أما بخصوص استجابة هذه المبادرة لخيار شعبي، فيتجسد ذلك من خلال عدة معطيات:
أولها أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة اللذان قادا فترة الإنتقال الأولى والأصعب وأمّنا انتخابات 23 أكتوبر2011 من الناحية التشريعية والتنظيمية والأمنية، وسلما السلطة بشكل سلمي حضاري منقطع النظير في التاريخ العربي الإسلامي القديم والحديث، وتمت ولايتهما بموافقة الطبقة السياسية بيمينها ويسارها وبارتياح شعبي يعبر عن مزاج عام قوامه الإقتناع بان تونس بحاجة الى كل أبنائها المستعدين للمساهمة في انجاح المسار الديمقراطي وانقاذ الإقتصاد، والحال أنهما تقلدا مناصب وزارية خلال فترة النظام السابق.
ثانيها اختيار الأستاذ الباجي قايد السبسي لقيادة المرحلة القادمة عبر انتخابه رئيسا للجمهورية الثانية وفوز حزبه، حركة نداء تونس، بالمرتبة الأولى في الإنتخابات التشريعية مما أهله دستوريا لاختيار رئيس الحكومة، وهو أحد موظفي الدولة السامين في النظام السابق.
كل ذلك يبرز تقدم مستوى وعي الشعب التونسي على بعض النخب السياسية والحقوقية بممارسته الفعلية للمصالحة.
كل هذه التشريعات والإجراءات والخيارات الشعبية فرضها الظرف والواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي والأمني، استجابة لمتطلبات الثورة ولانتظارات الشعب، وهي اجراءات تدخل كلها في صميم فلسفة وآليات العدالة الإنتقالية، انطلقت ابان الثورة ولم تنتظر تركيز هيئة الحقيقة والكرامة التي لم ولن تبدأ من الصفر.
نفس المتطلبات والإكراهات تحتم علينا أن نرسي، الآن، أسسا متينة لمصالحة وطنية تكون بوابتنا للوحدة الوطنية التي تمثل سلاحنا الإستراتيجي لمقاومة الإرهاب ولبناء دولة القانون والتقدم والمواطنة.
4 هل يمكن تحقيق المصالحة الوطنية خارج اطار هيئة الحقيقة والكرامة؟
بالتأكيد نعم، لعدة أسباب تعود الى قصور الهيئة في انجاح المسار بسبب تعارض القانون الأساسي عدد 53 مع المبادئ الجوهرية للعدالة الإنتقالية ( ا ) اضافة الى فقدان تركيبة الهيئة للحياد والإستقلالية ( ب).
أ قصور الهيئة في انجاح المسار بسبب مخالفة مضامين القانون الأساسي عدد 53 لمبادئ وفلسفة العدالة الإنتقالية:
لابد من التذكير في البداية بما خاضته مكونات المجتمع المدني من نقاشات عميقة سواء قبل سن القانون أو بعد ذلك، نقاشات تمحورت جميعها حول ضمان الآليات والوسائل الكفيلة بانجاح مسار العدالة الإنتقالية، الا أن الأغلبية الموجودة بالمجلس التأسيسي تعاملت بمنطق الأغلبية وفرضت توجهات مخالفة لفلسفة وأهداف العدالة الإنتقالية، تم تضمينها بفصول القانون، من ذلك الفصل الذي يخص لجنة الإصلاح الوظيفي والذي جاء ارضاء ل" جماعة تحصين الثورة " عن عدم تقنين مشروع قانون العزل السياسي، والفصول المتعلقة بلجنة التحكيم والمصالحة التي أفرغت هذه الآلية المستحدثة من محتواها وشوهتها، والفصل المتعلق بعدم الإحتجاج باتصال القضاء في ضرب صارخ لمبدأ من أهم مبادئ حقوق الإنسان ومن أهم مبادئ المنظومة الجنائية الدولية، والفصل المتعلق باطلاق يد الهيئة في ممارسة صلاحيات خطيرة دون رقابة درءا للشبهات وتفاديا للتعسف في تطبيق القانون.
اضافة لذلك، فقد أسند القانون المهام الخطيرة والإختصاصات الواسعة التي تتمتع بها الهيئة لفروع جهوية لا يعرف أحد كيف سيقع اختيار أعضائها ( النظام الداخلي اكتفى بالإشارة الى أن اختيارهم يكون حسب " معايير موضوعية " مما يبقي على الضبابية والغموض في طريقة الإختيار)، وكان من المتوجه استبعاد احداث فروع جهوية لتجنب تعامل أعضاء الفروع بذاتية وشخصية مع واقع جهاتهم، ولضمان وحدة طرق العمل، وان كان لابد من انشاء هذه الفروع فالإكتفاء باسنادها حصريا مهام مكاتب ضبط.
هذه اجمالا أهم المؤاخذات التي تداولها المجتمع المدني والمهتمين بهذا المسار والتي لم تلق آذانا صاغية من طرف صناع القرار آنذاك، الذين تعاملوا بمنطق الأغلبية سواء في سن القانون أو في اختيار تركيبة الهيئة، رئيسا وأعضاء.
ب قصور الهيئة في انجاح المسار بسبب فقدان أعضاءها الحياد والإستقلالية:
من الأركان الجوهرية والمفصلية في مسار العدالة الإنتقالية الحياد والإستقلالية الواجب توفرهما في أعضاء الهيئة، والإجماع الذي يتوجب توفره حول القانون وحول التركيبة حتى نضمن الإجماع حول نتائج أعمال الهيئة، فدون ذلك لا ولن ينجح المسار.
ان طريقة اختيار أعضاء الهيئة بانتهاج التمثيليّة النسبيّة في لجنة الفرز كان انطلاقا من موازين القوى داخل المجلس التأسيسي ( أقلية وأغلبية)، فالأغلبية المؤقتة اختارت الأعضاء على أساس الإنتماء الحزبي و الموالاة وتمت المحاصصة فيما بين مكونات تلك الأغلبية. على أساس ذلك وبالرغم من صعوبة تحديد مصطلحي الحياد والإستقلالية لتجردهما، يمكن الجزم بأنهما صفتين غائبتين تماما بالنسبة للرئيسة وأغلب الأعضاء.
رغم ذلك كنا ننتظر من رئيسة الهيئة بالأخص، لما للرئيس في التجارب المقارنة للجان الحقيقة من دور أساسي ومحدد في انجاح المسار، أن تتخلص من حقدها، وأن تتعامل قولا وفعلا مع المسؤولين عن الإنتهاكات في اطار منظومة حقوق الإنسان، وأن لا تجابه انتهاكات الماضي بارتكاب انتهاكات جديدة كالتعسف في تطبيق القانون وعدم احترام الإجراءات واتخاذ موقف الإدانة تجاه من تفترض تحملهم مسؤولية الإنتهاكات. حينئذ، كانت ستحصل حتما على مساندة ودعم أغلبية مكونات المجتمع المدني والسياسي، فلا أحد يرفضها لشخصها، وانما للأسف برهنت رئيسة الهيئة بعد توليها مهامها أنها فشلت في اتخاذ مسافة الأمان بين تجربتها الذاتية الشخصية، وبين مقتضيات وضرورات التعامل الموضوعي مع الماضي واستشراف مستقبل أفضل للبلاد. نكتفي بذكر مظهرين لهذا الفشل:
الشبهة التي تحوم حول سعي رئيسة الهيئة الى نقل الأرشيف الرئاسي بالطريقة التي حصلت في ذاك الظرف الذي لم يكن يفصلنا فيه عن نقل سلطة الرئاسة الا أيام معدودة. خصوصا اذا علمنا أن قرار نقل الأرشيف تم امضاؤه بتاريخ 22 ديسمبر 2014 أي غداة الإعلان عن النتائج الأولية للإنتخابات الرئاسية، أسئلة خلفتها واقعة شاحنات الأرشيف : لماذا نقل كامل الأرشيف في حين أن الفصل 40 يستعمل مصطلح " النفاذ " والنفاذ لا يعني النقل بل يكفي الإطلاع عليه وعند الإقتضاء طلب نسخة من بعض الوثائق التي لها علاقة بالملفات محل نظر الهيئة في اطار تحقيقاتها وأبحاثها ؟ والى أين سيتم نقل هذا الأرشيف؟ وهل توفرت الوسائل اللوجستية والأمنية والبشرية الكفيلة بحفظه وحمايته من الإتلاف ومن التسريب ومن استغلاله في غير أغراضه؟
الموقف العدائي الصريح والمتكرر لرئيسة الهيئة تجاه من تحمل مسؤوليات أو وظائف سامية خلال فترة النظام السابق وبعض الإعلاميين، هذا الموقف يعكس اصطفافا وانحيازا انطلاقا من أحكام مسبقة بالإدانة، كل ذلك قبل كشف الحقائق، وهذا ما يتعارض مع أبجديات العدالة الإنتقالية التي مفادها أن لا يقع الإنطلاق من أحكام مسبقة عن الإنتهاكات وعن المسؤولين عنها، يجب أن ننطلق من الصفر في قراءة الماضي والبحث عن الحقيقة وتثبيت ما يثبت منها، وربطه بالسياقات السياسية والتاريخية التي جدت فيها أحداث الإنتهاكات، وإلا لم السعي الى كشف الحقيقة إن كانت لدينا حقائق جاهزة؟
علاوة على ذلك فرموز النظام السابق أو من كان منهم مسؤولا عن الإنتهاكات هم مواطنون تونسيون لا يمكن ادانتهم خارج إطار القضاء ولا يمكن إقصاؤهم أو نعتهم بأي نعت يمس من كرامتهم أو التعامل معهم بغير ما تقتضيه المنظومة الكونية لحقوق الإنسان.
خلاصة القول، وبالنظر الى أن مسار العدالة الإنتقالية يساعد على اعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، قوامها الثقة والمشاركة، وبالنظر الى أن لجان الحقيقة تلعب دور الوسيط بين المجتمع والدولة، فانه يتحتم على من يكون وسيطا بين طرفين متقابلين ليصلح ذات البين بينهما أن يحافظ على نفس المسافة بينهما، والا اختل التوازن بالإنحياز الى طرف على حساب طرف آخر، وهنا ينحرف المسار من عدالة انتقالية الى عدالة انتقامية غايتها تصفية الأشخاص لا تصفية المنظومات الفاسدة، " عدالة " تتعامل مع ماضي الإنتهاكات حسب رؤية منطلقاتها : الإقصاء والتطهير والعزل والغربلة والإعفاء والقائمات السوداء والكتب السوداء.
فلا مناص اذن من الإرتباط العضوي بين نجاح مسار العدالة الإنتقالية وبين ضرورة توفر عنصري الثقة في أعضاء الهيئة والإجماع حول أعمالها، ولا يتأتى ذلك في غياب جليّ لعنصري الإستقلالية والحياد.
5 ملامح مبادرة المصالحة الوطنية
تتخذ المصالحة أبعادا ثلاثة : مصالحة المجتمع مع ماضيه ومصالحة المجتمع مع الدولة ومصالحة المسؤول عن الإنتهاك مع الضحية.
المقصود بمصالحة المجتمع مع ماضيه، مصارحته بما حصل من انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوق الإنسان والإعتراف بوجودها، والغاية من ذلك إزالة المحرمات التي طبعت علاقة المجتمع بالإنتهاكات، واختراق ثقافة الخوف، والإقرار السياسي بحق المواطنين في الإطلاع على ماضي الإنتهاكات و إبداء الرأي حولها.
المقصود بمصالحة المجتمع مع الدولة إقرار الدولة بمسؤوليتها عن ارتكاب إنتهاكات لحقوق الإنسان واعتذارها كدولة لضحايا الإنتهاكات و للمجتمع وإلتزامها بجبر الأضرار.
المقصود بمصالحة الضحية مع المسؤول عن الإنتهاك ابرام صلح بينهما تعفو الضحية بمقتضاه عن المسؤول عن الإنتهاك مقابل اعتراف واقرار هذا الأخير بما اقترفه واعتذاره عن ذلك علنيا، ويشمل الصلح كذلك الإنتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والإقتصادي.
ان مبادرة المصالحة الوطنية تنصب أساسا على البعدين الأولين في الذكر وهو ما يصطلح على تسميته بالمصالحة السياسية، هذه المصالحة التي تعتمد على تعامل وتعاطي مبنيين على نظرة اجمالية وعامة لماضي الإنتهاكات دون التركيز على المسائل المرتبطة بالملفات الفردية للضحايا، بمعنى التعامل مع الإنتهاكات كظواهر وأنماط وليس كحالات فردية، ومن ثم اقرار الدولة واعترافها بمسؤوليتها وتقديم اعتذارها للضحايا وللمجتمع، و الإلتزام باتخاذ جميع الإجراءات، سواء على المستوى التشريعي أو على المستوى المؤسساتي، الكفيلة بضمان عدم تكرار ما حصل، اضافة الى اتخاذ وسائل حفظ الذاكرة ونشر ثقافة حقوق الإنسان ونبذ العنف بما في ذلك إدماج هذه الثقافة في برامج التربية والتعليم.
كما تشمل المبادرة وضع خطة واضحة ومتكاملة تعتمد على معايير موضوعية ودقيقة لتسوية الملفات المتعلقة بالفساد المالي والإقتصادي حتى نقطع الطريق أمام الإبتزاز والمساومات والصفقات المشبوهة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.