ماهي الاشكالية التي تعاني منها تونس سياسيا؟؟ من الممكن أن نجد الاجابة في الاستنتاجات التالية.. تمر تونس بأزمتين اقتصادية واجتماعية كبيرتين أثرتا على الحياة اليومية والعلاقات الإنتاجية كما أثرتا على مستوى العقل السياسي الذي أضحى لا يملك أفكارا يمكن من خلالها ايجاد حلول على المستوى القصير والمتوسط والبعيد .. ولعل هذا التعطل ساهم في خلق "دينامكية متجمدة للعقل السياسي" التونسي الذي أضحى قاصرا على أن يوفر مجموعة من الأفكار الجذرية تساهم في اخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تمر بها البلاد والتي خلقت شبه دائرة مفرغة في تعاطي الحكومة (أو المجتمع السياسي الحاكم) مع الشأن اليومي للشعب أو مع همومه وانتظاراته وخلقت نوعا من عدم الثقة بينهما، وهو ما شكّل أزمة تواصل تعاني منها حكومة الصيد في تسويقها لخطابها. من نفس هذا الإطار فإن الأزمة التي تعاني منها تونس هي أزمة خلل في عمل الدولة ومؤسساتها، مع غياب الأفكار، والتي حتى ان وجدت فإنه يقع تمريرها واستعمالها لغايات سياسوية وايديولوجية ضيقة، وهو ما شاهدناه مع حكومات الترويكا وهو ما بدأ يعطّل عمل الحكومة الحالية، وكذلك ما بدأ الائتلاف الحاكم (أو جزء منه) في التوجه إليه بنفس الوتيرة في عدة ملفات، وعلى سبيل المثال لا الحصر أزمة القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء المشكو في عدم دستوريته. ولعل هذه الأسباب ساهمت في اضعاف دور الدولة مع تواصل عدم وجود أفكار على مستوى النخبة الحاكمة بالائتلاف السياسي الموجود في البلاد، وكذلك عدم وجود بديل آخر لها لدى المجتمع السياسي التونسي بمعارضته البرلمانية وغير البرلمانية، خاصة وأن كل العلاجات والمسكنات الوقتية للأزمات قد لا تنفع في تفادي الانهيار التام مستقبلا.. لذلك فإن التوصيف الأمثل لهذه الأزمة التي تمر بها الدولة تتمثل في تعطل "محرك آلة عمل" اي مؤسساتها في "غياب الوقود الوحيد" الذي يمكن من اعادة دوران محركاتها الا وهو: الافكار الجديدة في عالم متجدد وهو ما يحتاج لآليات تفكير وعمل جديدة تقطع مع الأركايكية الموروثة من العهود السابقة. ومن جهة أخرى علينا أن ندرك أنه يوجد بون شاسع بين المصلحة الاستراتيجية لدولة تمثل سيادة الشعب وبين مصلحة حزب أو أحزاب تحكم دواليب هذه الدولة. من هنا فإنه وجب الادراك والتسليم بأن الأحزاب والاشخاص والهياكل الممسكة بتلابيب السلطة تتغير بتغير الزمن ولكن في تغييرها يكمن خطر على تواصل الدولة وعمل آلية مؤسساتها، إذا ما حصرنا مصلحة الدولة بمصلحة ذلك الحزب أو الائتلاف السياسي الحاكم بما يمكن أن يخلق اشكالا في عمل الدولة وتواصلها، خاصة وأن حكم الدولة وفق نظرة ايديولوجية لحزب فائز قد لا يمكّنها من تحقيق ذلك التواصل، ويفرض عليها تنازلات تكون الدولة في غنى عنها، فالفرض الايديولوجي على مؤسسات الدولة سيدفع إلى صراع أجوف يشكل خطرا على الدولة. من هنا ما هو الحل؟ قد يكمن الحل في أن تكون للدولة منابع أفكار جديدة ومتجددة تمكنها من فتح عدة آفاق واعداد سيناريوهات للتغلب على الاشكاليات التي يمكن أن تكون قائمة وفق الامكانيات الموجودة ولتحقيق أكثر أهداف التي يقع تسطيرها لبلوغها، وهنا نحن نتحدث عن استراتيجيا ولا نتحدث عن سياسة. إذا من مصلحة الدولة أن تجد لنفسها ينابيع متجددة من الأفكار التي تمكنها من الخروج من أزماتها وتفتح لها عدة طرق جديدة تمكنها من أن تكون وقودا لمؤسساتها وتخرجها من بوتقة الصراع الايديولوجي والسياسي الى بوتقة التفكير الاستراتيجي، وهنا يكمن اللبس في تونس بين ماهية السياسة وماهية الاستراتيجيا.. ان أي اصلاح لتحقيق اقلاع اقتصادي يبدأ من مستوى البنية الفوقية (الأفكار) لتجد طريقها نحو آخذ القرار وهو السياسي المنتخب الذي يدير سلطة الدولة، والذي من جهته يقوم باستعمال تكتيكاته المختلفة على تحقيق أهداف مسطرة تمثل في الأخير "المصالح العليا للدولة"، ولا مصالح النخبة السياسية الحاكمة، وهذا ما يمثل مجال الاستراتيجيا الذي تكون فيه السياسة تكتيكا يعمل من خلاله السياسي وفق قناعاته الايديولوجية على تحقيقها (استعمال القوة أو تحقيقها باعتماد تقوية العام على الخاص أو الخاص على العام ومن خلال العمل على قوة ناعمة أو التقشف أو زيادة الانفاق).. من هنا فإن على النخبة القيادية من مجتمع سياسي ومجتمع مدني في تونس (أحزاب و منظمات مجتمع مدني وجامعات ..) العمل على معرفة احتياجات الشعب وترجمتها إلى أهداف واعداد مخطط (او مخططات) الوصول إليها وتحقيقها وفق آليات الموجودة، وهذا ما يمثل الاستراتيجيا، وما على السياسة إلا أن تلتزم بالتكتيك لتحقيق الاستراتيجيا... وللقيام بذلك يجب على الدولة أن تشجع احداث مؤسسات تفكير بل والعمل على تشجيع الاستثمار في ميدان التفكير وإنتاج الأفكار فبهذه الأفكار يمكن لمؤسسات الدولة تحقيق التواصل وإخراج الدولة من دائرة الصراع الأيديولوجي التي تفرضها برامج الأحزاب، وتخرجها من بوتقة التفكير في الهدم وإعادة البناء التي كلفت الدولة والمجتمع التونسي في السنوات الأخير الكثير من الجهد والوقت والأموال. في محصلة أخيرة على القائمين على صنع القرار في تونس الادراك أن السياسة تعمل لصالح الاستراتيجية وأن العكس غير صحيح.