ما كشفه تقرير منظمة الشفافية الدولية منذ يومين بأن 62 % من التونسيين غير راضين عن أداء الحكومة في مجال مقاومة الفساد، يعكس وعي الرأي العام بسطوة الفساد وتغلغله داخل أجهزة ومفاصل الدولة إلى درجة قد تعجز معها الحكومة التي بيدها الجهاز التنفيذي للدولة من تطويقه والسيطرة عليه. وضعية مستعصية لاستشراء وتفشّي الفساد تتجلّى بوضوح في مجال الصفقات العمومية،هذا الملف التابوه الذي تخشى حكومات ما بعد الثورة الاقتراب منه بعد أن استشرى فيه الفساد. اليوم تنظّم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالتعاون مع الجمعية التونسية للمراقبين العموميين وجمعية إطارات الرقابة والتفقّد والتدقيق بالهياكل العمومية ندوة حول آليات التصدّي للفساد في الصفقات العمومية،في محاولة لإنقاذ هذا القطاع الحيوي باعتماداته الضخمة من براثن بارونات الفساد المتمعشين من الدولة وهم من داخل جهاز الدولة في أغلبهم. فساد وبائي يلتهم رُبع الصفقات العمومية التي يمثّل حجمها وفق إحصائيات 2015 حوالي 18 % من الناتج الداخلي الخام و35 % من ميزانية الدولة . تخسر الدولة سنويا آلاف المليارات،من جرّاء فساد موظفين وتواطؤ مسؤولين حكوميين،ولا أحد يحرّك ساكنات! فقدان نقطتين من النمو كان الفساد في القطاع العمومي أحد أهم الأسباب التي ساهمت في إذكاء شرارة الثورة وفضحت النظام السابق وأسقطته،وعكس ما كان متوقّعا من انحسار «منسوب» الفساد واجتثاثه بعد الثورة،فان الفساد انتعش واستفحل لأسباب مختلفة. عبد الرحمان الأدغم الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالحوكمة ومقاومة الفساد في 2012 صرّح أن «الفساد استفحل بالأساس في قطاع الصفقات العمومية التي تصل مستوى معاملاتها إلى 20 % من الناتج الداخلي الخام أي ما يوازي نقطتين في النمو الاقتصادي». مؤكّد أن قطاع الصفقات العمومية شهد في العهد السابق تجاوزات بالجملة جعلته من أكبر الميادين التي طالها الفساد الإداري والمالي، ثم يأتي قطاع النفقات العمومية ويليه التهرب الجبائي الذي قال عبد الرحمان الأدغم أن الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الوطني من جراء التهرب الضريبي تصل إلى مستوى 20%. ورغم أن قطاع الصفقات العمومية يستوعب يوميا آلاف المليارات،إلا أن الدولة تقف اليوم عاجزة عن تطويق الظاهرة التي تفقدنا سنويا نقطتين من النمو،أي حوالي 32 ألف موطن شغل سنويا في وقت يتخبّط فيه الاقتصاد التونسي في عجزه وتعجز الحكومات المتعاقبة عن تحقيق ولو نقطة نمو واحدة بعد الثورة. استشراء الفساد في الصفقات العمومية حتى بعد الثورة دفع بعدد من المنظمات والجمعيات التي تعمل في مجال التصدّي ومكافحة الفساد إلى التنبيه لحجم الاخلالات والتجاوزات المتواصلةفي مجال الصفقات العمومية والمخاطر المترتّبة عن هذا الأمر بالنسبة لقطاع حيوي كالصفقات العمومية ومن بين هذه الجمعيات نجد «الجمعية التونسية للمراقبين العموميين» التي تبحث اليوم مع الهيئة العليا لمكافحة الفساد الآليات الكفيلة بالتصدّي لهذه الظاهرة التي تنخر القطاع العام وتساهم بصفة مباشرة في إضعاف الدولة. إهدار للمال العام الصفقة العمومية التي هي عبارة عن عقد يبرمه المشتري العمومي الذي يمكن أن يكون الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية الإدارية أو المؤسسات العمومية التي لا تكتسي صبغة إدارية أو المنشآت العمومية وتخضع الصفقات العمومية للأمر عدد 3158 لسنة 2002 المؤرّخ في 17 ديسمبر 2002 المتعلق الصفقات العمومية. ورغم أن هذا الأمر ينصّ على ضرورة المساواة أمام الطلب العمومي وتكافؤ الفرص وشفافية الإجراءات واللجوء إلى المنافسة الاّ أن هذه الشروط القانونيةلا تُطبّق إطلاقا في جزء هام من الصفقات العمومية. فقد أكّدت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على لسان رئيسها الأستاذ شوقي الطبيب أن الدولة تنفق بمختلف وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها حوالي 10 آلاف مليون دينار سنويا بعنوان شراءات في إطار صفقات عمومية،يضيع منها على الأقل 25% في الفساد نتيجة لغياب آليات الرقابة والمتابعة أي ما يناهز 2000 مليون دينار،خسارة من المال العام. وتحرص الهيئة اليوم على فضح أساليب الفساد المعتمدة في الصفقات العمومية والتصدي لهذه الظاهرة وتكريس منظومة الشفافية والحوكمة الرشيدة بما يمكّن من المحافظة على المال العام الذي هو مال المجموعة الوطنية وبالتالي يجب توظيفه بما يخدم المنفعة العامة. وحسب عدد من الخبراء فان التجاوزات تكمن عادة في تصنيف طلب العروض من خلال اعتماد صيغة طلب العروض المعقّد عوضا عن العادي حتى لا يتم اختيار العرض الأقل ثمنا والمطابق لكراس الشروط، كذلك على مستوى فرز العروض حيث تنتفي المعايير الموضوعية الواضحة في إسناد الأعداد التي تدعم عرضا عن عرض آخر. كما تعمد بعض اللجان المكلّفة بالفرز إلى إقصاء عروض مطابقة لكراس الشروط وقبول عروض غير مطابقة بالإضافة إلى إدراج أحيانا معايير جديدة أو تغيير الأعداد بما يخدم مصلحة بعض الأطراف. هذه الممارسات غير القانونية لبعض اللجان جعلت أعضاءها من الأثرياء بعد صفقة وحيدة حصل عليها صاحبها بالرشوة وبالعمولات المشبوهة..وفي الأثناء الجميع يعلم بمواطن الفساد ولكن لا أحد يتحرّك لإنقاذ الدولة من قبضة «المافيات» والعصابات. منية العرفاوي جريدة الصباح بتاريخ 05 ماي 2016