قدّم المخرج المسرحي غازي الزغباني عمله المسرحي الجديد «الهربة»، مساء الجمعة بفضاء الارتيستو بالعاصمة، وهو عمل من أدائه رفقة كلّ من الممثلة نادية بوستة والممثل محمد حسين قريع. يدوم العرض 60 دقيقة، وتروي أحداثه رحلة هروب متشدّد ديني من قبضة الأمن، ولجوئه إلى منزل بائعة هوى للاحتماء به عن أنظار الأمنيين. فتعمل بائعة الهوى على مساعدته رغم التناقض الشديد في الأفكار بينهما بما هو متشدّد، بينما هي حاملة لأفكار متحرّرة. في مسرحية «الهربة»، يهرب المتشدد الديني من قبضة الأمن، لكنه في المقابل يجد نفسه أمام واقع آخر مناف لمبادئه وأفكاره وميولاته التكفيرية. وهذا الواقع الجديد الذي التجأ إليه الشاب المتشدّد، هو منزل متواضع لبائعة هوى، ويفترض أن يكون المتشدّد رافضا لهذا الواقع، لكنه يستسلم لأمره بدافع «القدر» الذي ساقه إلى هذا المكان لينجو من قبضة الأمن. واختار المخرج في هذا العمل، ثلاثة نماذج مختلفة من المجتمع التونسي، هي متشدد ديني وبائعة هوى ومواطن عادي. ولكن الجزء الأكبر من هذا العمل خصّصه المخرج للحوار الدائر بين الشاب المتشدد والمرأة. فجعل المرأة تعرّي أفكاره التكفيرية وتكشف المفارقة التي يعيشها هذا الشاب مع ذاته، فتدعوه للمصالحة مع الذات والإقبال على الحياة. وتعدّدت عناصر المفاجئة في العرض، فكانت أهم المواقف التي شدّت إليها انتباه الجمهور هي شخصية بائعة الهوى، فهذه المرأة ذات المستوى الدراسي والثقافي المحدود بدت رمزا للحكمة والتفكير العقلاني الحر وبدت منفتحة ومتعايشة مع الآخر مهما كانت درجة الاختلاف بينهما، فهي لم تستدع الأمن عندما دخل عليها هذا الشاب التكفيري، ولكنها في المقابل ساعدته رغم علمها بالعواقب التي يمكن أن تؤول إليها ما اقترفته بهذا العمل. أمّا الشاب التكفيري، فهو خريج الجامعة، وقد كان من المؤمّل أن يكون صاحب عقل وتفكير راق وأن يكون متحرّرا ومنفتحا على الآخر، ولكن الحاصل هو العكس، فهذا الشاب منغلق على نفسه وعلى الآخر، فهو لا يأبى حتى أن ينظر إلى المرأة في الظاهر، ولكنه تمنى في نفسه لو كان بصحبتها دوما. ولم يغفل المخرج غازي الزغباني في استعراض بعض القضايا الاجتماعية في مسرحية «الهربة» مثل تفشي البطالة وتدني المقدرة الشرائية للمواطن، بالإضافة إلى النظرة الدونية للمرأة في مجتمع يدّعي الحرية والديمقراطية ويحترم مبدأ الاختلاف مع الآخر. تنتهي المسرحية بنجاح بائعة الهوى في أن تجعل هذا الشاب التكفيري يتصالح مع ذاته ويعود تدريجيا إلى هيئته الأولى، وذلك بعد أن كشفت تعارضه مع ما يقوله وما يفعله: فهو الذي طلب منها إسقاط الجنين رغم أن الدين يحرّم هذا الفعل.