الإدارة العامة للأداءات تُحدد آجال إيداع التصاريح الشهرية والسنوية لشهر ماي 2025    ربط أكثر من 3500 مؤسسة تربوية بالألياف البصرية عالية التدفق    وفد من هيئة الانتخابات في رومانيا لملاحظة الانتخابات الرئاسية    عاجل/شبهات تعرّض سجين للتعذيب ببنزرت: هيئة المحامين تُعلّق على بلاغ وزارة العدل وتكشف..    كل ما تحتاج معرفته عن ''كليماتيزور'' السيارة ونصائح الاستعمال    قيس سعيّد يُجدّد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي..    عاجل/ في نشرة متابعة: تقلبات جوية وامطار رعدية بعد الظهر بهذه الولايات..    انطلاق امتحانات البكالوريا التجريبية..    عاجل/ منخفض جوي شبيه بمنخفض جانفي وفيفري..هكذا سيكون الطقس خلال الأيام القادمة..    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    حكم قضائي في حق اجنبي متهم في قضية ذات شبهة ارهابية    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    البطولة الفرنسية : ليل يتعادل مع مرسيليا 1-1    فرص واعدة للمؤسسات التونسية في FITA2025: تونس تستقبل القمة الإفريقية يومي 6 و7 ماي 2025    عامر بحبة: أسبوع من التقلبات الجوية والأمطار الغزيرة في تونس    عاجل : دولة عربية تعلن عن حجب 80% من الحسابات الوهمية    محرز الغنوشي: حرارة صيفية الظهر وأمطار منتظرة    بوفيشة: احتراق شاحنة يخلف وفاة السائق وإصابة مرافقه    مفتي السعودية يوجه رسالة هامة للحجاج قبل انطلاق الموسم بأيام    العثور على جثث 13 موظفا من منجم للذهب في بيرو    ترامب يأمر بفرض رسوم بنسبة 100% على الأفلام غير الأمريكية    الرحيلي: الأمطار الأخيرة أنقذت السدود... لكن المشاكل الهيكلية مستمرة    من الثلاثاء إلى الخميس: انقطاع مياه الشرب في هذه المناطق بالضاحية الجنوبية للعاصمة    حصيلة المشاركة التونسية في البطولة العربية لألعاب القوى بالجزائر: 19 ميدالية....    ترتيب لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع..    سوريا.. انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف ب"الهاون"    باكستان تصعد حظرها التجاري ضد الهند    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    بوسالم.. فلاحون يطالبون بصيانة و فتح مركز تجميع الحبوب بمنطقة المرجى    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    بوشبكة.. حجز أجهزة إتصال متطورة لدى اجنبي اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 25 و29 درجة    دخل فرعا بنكيا لتحويلها.. حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خبير بالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية يكتب: في ضرورة تقييم ثورات "الربيع العربي"
نشر في الصباح نيوز يوم 26 - 10 - 2018

إعداد:السفير محمد إبراهيم الحصايري (خبير بالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية )
وصلنا مقال من السفير محمد إبراهيم الحصايري الخبير بالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية تناول فيه ثورات "الربيع العربي" التي هبت رياحها على تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين ، مؤكدا انه بات من الضروري، تقييم هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ المنطقة العربية.
وفي ما يلي نص المقال:
بعد مرور أكثر من سبع سنوات عجاف على ما سُمِّيَ، عن باطل أو حقّ، بثورات "الربيع العربي" التي هبت رياحها على تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين... بات من الضروري، في نظري، تقييم هذا الحدث غير المسبوق في تاريخ المنطقة العربية منذ الاستقلالات الوطنية في أواسط القرن الماضي، تقييما شاملا، موضوعيا ومحايدا،الغاية منه محاولة استجلاء أبعاد هذه الثورات واستشراف آفاق تطورها، وليس هجاءها أو أو مدحها، ولا تحميلها المسؤولية عن صعوبات الوضع العربي الراهن أو اعفاءها منها.
وقد صدرت،حتى الآن،العديد من التقييمات خاصة عن كلفة ثورات "الربيع العربي" وعن نتائجها، ففي تقرير نشرته في أواخر سنة 2016، لخصت صحيفة "نيويورك تايمز" نتائج هذه الثورات فيما يلي:
* تدمير أربع دول عربية هي: العراق، وليبيا، وسوريا، واليمن.
* 14مليون لاجىء.
* 08مليون نازح.
* 30مليون عاطل عن العمل.
* 1.4مليون قتيل وجريح.
* 900مليار دولار دمار بنية تحتية.
* 640مليار دولار سنويا خسارة في ناتج الدول العربيةالمحلي.
* 300مليار دولار كإنفاق لمحاولات إجهاض الثورات.
* 50مليار دولار تكلفة اللاجئين سنويا.
* تريليون و200 مليار دولار تكلفة الفساد في الدول العربية.
* 14.5 مليون طفل لم يلتحقوا بالمدارس.
* 70 مليون عربي تحت خط الفقر.
* ازدياد عدد الفقراءمنذ سنة2011 بنسبة 60% كل سنة في الدول العربية.
* تراجع تدفق السياح ب 103.4 مليون سائح عما كان متوقعاً بين سنتي 2010 و2014. (حسب ما أعلنه المنتدى الاستراتيجي العربي في تقرير أصدره في ديسمبر 2015 تحت عنوان "تكلفة الربيع العربي").
أما عن حالة الديمقراطية في الدول العربية بعد ثورات "الربيع العربي"، فإننا نجد في التقرير السنوي لعام 2017 عن حالة الديمقراطية والحريات في العالم الذي تصدره وحدة البحوث بمجلة "الإيكونوميست" البريطانية الصورة التالية:
* يؤكد التقرير الذي شمل 167 دولة من دول العالم، وصنّف الأنظمة السياسية الحاكمة أربعة أصناف هي، الديمقراطيات الكاملة، والديمقراطيات المَعِيبَة، والأنظمة الهجينة بين الديمقراطية والديكتاتورية، ثم الأنظمة الدكتاتورية، أنه باستثناء تونس التي حلت في المرتبة الثانية ضمن ترتيب دول الشرق الأوسط، بعد إسرائيل التي جاءت في المرتبة الأولى، تعيش بقية الدول العربية حالة متدهورة من حيث المناخ الديمقراطي.
* حققت تونس التي جاءت ضمن خانة الديمقراطيات المَعِيبَة 6.32 درجات على مقياس التقييم الذي يضم عشر نقاط، تليها كل من المغرب (4.87) ولبنان(4.72) في حين تأتي بقية الدول العربية الأخرى في مراتب متأخرة ضمن جدول منطقة الشرق الأوسط.
* حققت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أدنى الدرجات وفق مقياس التصنيف للعام 2017 وقد باتت تسجل تراجعا، عاما بعد عام، منذ سنة 2012.
* يرتبط هذا التراجع في الحالة الديمقراطية في المنطقة، بتبدّد المنجزات التي حققتها الحركة المطالبة بالديمقراطية، والتي عرفت باسم "الربيع العربي" منذ ديسمبر عام 2010.
* إضافة الى هذا التراجع، فإن المنطقة العربية تعاني من تركّز المَلَكِيّات المطلقة والأنظمة الدكتاتورية فيها.ِ
* كما تعاني من انتشار النزاعات المسلحة، علما بأن خمس دول من بين الخمس عشرة التي جاءت في ذيل التصنيف، هي من المنطقة العربية حيث تحتل سوريا الموقع الثاني قبل الأخير فيه.
* يؤكد التقرير على أن انعدام الاستقرار السياسي في المنطقة العربية، واصل ضغطه على إمكانية التقدم باتجاه الديمقراطية خلال عام 2017، حيث انجرفت عدة دول إلى مزيد من الممارسات الدكتاتورية وحيث كثّفت عدة أنظمة من قمعها لحرية الإعلام والتعبير.
* ان قضية مقاطعة دول خليجية لقطر، والتي عرفت باسم "الأزمة الخليجية"، تمثل نموذجا للتأثير السلبي للممارسات السياسية على حرية التعبير، حيث أصدرت الإماراتقانونا جديدا يجرّم الانتقاد العلني للمقاطعة المفروضة على قطر، بينما ضيّقت قطر، بسبب الأزمة، على الوسائل الإعلامية، أما البحرين فقد ساء ترتيبها ضمن حالة الديمقراطية، بصورة كبيرة خاصة بعد إعادتها تفعيل محاكمة المعارضين المدنيين أمام محاكم عسكرية.
* يخلص التقرير في الختام الى أن النتائج تؤكد انعدام تقدم حقيقي باتجاه الديمقراطية، في أعقاب "الربيع العربي" وأن الفراغ في السلطة الذي خلّفته الإطاحة بحكام دكتاتوريين، عمّروا كثيرا في أماكنهم ملأته في معظم الأحيان، حروب أهلية مثل الحالة في ليبيا واليمن أو ملأه صعود حكام يحكمون قبضتهم على السلطة كما حدث في مصر.
وبالاستناد إلى ما جاء في هذين التقريرين اللذين يوصّفان ما باتت عليه بعض جوانب الوضع العربي الراهن، وبالتأمل فيما تشهده الساحة العربية حاليا من تطوّرات متلاحقة،سيكون من المفيد، في اعتقادي، أن نستهل محاولة تقييمنا لثورات "الربيع العربي"، بالموازنة بين أسبابها وبين نتائجها؟
أن هذا الحدث "الجلل" جاء نتيجة لتضافر عدّة أسباب داخلية وخارجية يمكن إجمالها فيما يلي:
. تآكل مصداقية الدولة الوطنية العربية لاسيّما خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين بفعل هشاشة مؤسساتها، وقصورها عن مواجهة تحوّلات المنظومة الدولية في ظل هجمة العولمة بقيمها النيو ليبرالية المتوحّشة.
. استفحال الأزمات الناجمة عن استعصاء تلبية احتياجات المجتمعات العربية على صعيد التنمية الاقتصادية والسياسية والبشرية خاصة مع تفاقم الاستيلاء على الثروات الطبيعية الوطنية حتى بواسطة الغزو العسكري، وعن طريق الشركات متعددة الجنسيات العملاقة التي يتوفر بعضها على إمكانات أكبر من إمكانات العديد من الدول العربية، والتي تعمل باستمرار على تحجيم دور هذه الدول، من خلال إرغامها على فتح أسواقها وإلغاء قطاعاتها العامة، ومنح المزيد من المزايا للاستثمار الاجنبي...
. تأجّج الأحداث المطلبية وأحداث المناهضة للأنظمة القائمة في مواجهة آثار سياسات الاضطهاد الوطني والتهميش الاجتماعي وهدر الحقوق الطبيعية والمكتسبَة.
. تفاقم فساد السلطة واستبدادها...
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن ثورات "الربيع العربي" قامت نتيجة حراك عامّ شاركت فيه فئات اجتماعية مختلفة الآمال والتطلعات، بحسب مخزون كل منها، وعلى هذا الأساس فانه لا يمكن اختزالها في أنها ثورات من أجل الحريّة ضد الاستبداد، وانما هي ذات أبعاد متعددة ومتشابكة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية حضارية...
أما إذا جئنا إلى النتائج، فإننا يمكن أن ننطلق مما قاله عالم اللغة والفيلسوف والناشط الأمريكي، نعوم تشومسكي، في حوار أجراه معه عمران فيروز سنة 2016 لموقع "قنطرة"،إذ أكد،جوابا على سؤال "هل ترى أن الربيع العربي قد فشل فشلا تاما؟: أنه "في الحقيقة نحن لا نعرف ذلك. لقد كانت هناك إنجازاتٌ، ولكن الآن بتنا نشهد انتكاسة. لقد حدثت تغييرات مهمة، كان من الممكن أن تكون أساسًا لشيء ما. والربيع العربي كان مجرَّد مرحلة من مراحل عديدة على طريق الحرِّية والديمقراطية، التي شهدناها في الأعوام الأخيرة".
إن هذه الإجابة الحذرة تبيّن أن الحديث عن نتائج ثورات "الربيع العربي" حديث إشكالي يتخلله الكثير من الحيرة واللايقين، غير أن تحليل كلام نعوم تشومسكييؤكد، في نهاية المطاف، أن هذه الثورات حققت، على الأقل في البداية، إنجازات ما، لكنها سرعان ما انتكست.
وفي رأيي، فإنهذه الإنجازات تتجلى في أهم المظاهر التالية:
* أن سلسلة الثورات التي شهدتها سنة 2011 كانت بمثابة لحظات انفجار متكررة في أكثر من دولة عربية، غير أنها لم تكن منتظرة رغم توفر كل العوامل الباعثة على قيامها، لأنه لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدول العربية منذ الاستقلالات الوطنية، ومن هذا المنطلق فإن مجرد حدوثها يشكل حدثا تاريخيا في حد ذاته.
* أن هذه الثورات حرّرت الشعوب العربية من عقدة الخوف التي رانت عليها على امتداد عدة عقود حتى بات من الميؤوس منه أن تتحرك لتغيير واقعها.
*أنها أدت الى تداعي أنظمة الدول التي وقعت فيها، ووجهت رسائل تحذير الى بقية الأنظمة العربية، وهو ما حفزها على القيام، بدرجات متفاوتة، بإدخال العديد من الإصلاحات والتغييرات التلقائية والسلمية.
* أن الجهات والأطراف التي حلت محل الأنظمة المتداعية، عملت على الأقل في المرحلة الأولى على تحقيق بعض تطلعات الشعوب فيما يتعلق بأساليب الحكم وإقرار الحريات وتكريس حقوق الانسان...
* في هذا الإطار تعتبر التغييرات التي حصلت في تونس استثناء يؤكد القاعدة، ونعني بالقاعدة أن الثورات العربية كان يمكن أن تنجح في خلق حالات مماثلة للحالة التونسية لو اهتدت الشعوب المعنية الى استخدام نفس الأساليب والوسائل في إدارة مرحلة ما بعد الثورات...
* يشكّل الدستور التونسي الجديد الذي ولد بعد مخاض طويل، وعلى ما فيه من هنات إنجازا هاما حيث أنه يقنن ويرسخ مبادئ وشروط تولي الحكم و"يمنع أي مغامر من الاستيلاء على السلطة والاستبداد بها" مجددا، ويوسع المشاركة السياسية والحكم المحلي، ويعطي دورا أكبر للمناطق الفقيرة والمهمشة...
* إلى ذلك، وبالرغم من بعض الوقائع الأليمة (الاغتيالات خاصة)، يعتبر ابتعاد تونس عن أي شكل من أشكال الاقصاء وعدم وقوعها في العنف من أبرز مميزات تجربتها.
بيد أنه لا بدّ من الإقرار، في المقابل، بان عدة عوامل تضافرت وأدت إلى فشل أو انتكاس المسارات الديمقراطية التي بشرت بها ثورات "الربيع العربي"، وقد بات من الثابت أن هذه المسارات لم تتواصل في خط مستقيم، كما كان مؤملا، حيث أنها عرفت الكثير من التعرّجات والتعثرات وهو ما أدى الى انتكاسها جزئيا أو كليا، في بعض الدول والى انقلابها الى صراعات وحروب أهلية في بعضها الاخر...
وعند البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الانتكاس او الانقلاب، فإننا نلاحظ أنها مزدوجة، فبعضها داخلي وبعضها الاخر خارجي، وسنحاول فيما يلي تعداد أهم هذه الأسباب الداخلية منها والخارجية:
أ‌) الأسباب الداخلية:
- ضحالة مردود الثورة:
بالانطلاق من التجربة التونسية، وهي التجربة التي يجمع المراقبون على أنها الأفضل، لا أحد يستطيع أن ينكر أن الفجوة بين انتظارات التونسيين من الثورة وبين عائداتها المادية والمعنوية على حد سواء كبيرة جدا، وهذا ما يجعل قطاعات واسعة من الشعبتشعر بأنَّها لم تحصل على مقابل لما قدمته أثناء الثورة وما لا تزال تقدمه بعدها من تضحيات كبيرة بسبب تعثر عملية الانتقال الديمقراطي، وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها.
وقد أدى الإحساس بالإحباط من قدرة الحكومات العديدة المتعاقبة على تغيير هذه الأوضاع الى ظهور نوع من الحنين الى فترة ما قبل 14 جانفي 2011، عند هذه القطاعات من الشعب، وحتى عند جانب من النخبة السياسية والاقتصادية في البلاد.
ويظهر الإحساس بالإحباط، بوجه خاص عند فئة الشباب الذي تلاشى شعورُهبالنشوة ابان نجاح الثورة المبدئي والجزئي والقصير، شيئا فشيئا، وحل محله شعور عميق بعدم الرضا عن مخرجاتها تؤكده استطلاعات الرأي المتتالية حيث أن نسبة التونسيين الذين يرون أنَّ الثورة لم تساعد على حل مشكلات البلاد عالية جدا وهي تتراوح بين سبعين وثمانين بالمائة.
وما يخشى الان هو أن يؤدي استمرار تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعجز عن مكافحة الفساد الذي يتسبب سنويا، حسب بعض التقديرات، في فقدان 100 ألف فرصة عمل، وغياب التنمية الى تفاقم الشعور بالإحباط والى تولد حالة من القهر والغضب الشعبيين اللذين قد يعصفان بالإنجازات المحدودة التي حققتها الثورة (من المؤشرات الخطيرة على هذا الاحباط مشاركة 3 ملايين فقط من أصل 8 ملايين شخص في الانتخابات البلدية الاخيرة).
على أن الجدير بالملاحظة أن الوضع في دول "الربيع العربي" الأخرى أدعى الى الإحباط من الوضع في تونس، ففي هذه الدول التي غرق بعضها في بحور من الدماء، والتي أنهكتبعضها الاخر الخلافات والصراعات حتى باتت مهددة بالتفتيت والتقسيم، أو بعودة الأنظمة القمعية المتداعية بطريقة أعنف وأشد قسوةً... تبخر أمل الشعوب أو كاد في قيام المجتمعاتالديمقراطية الحرة التي تتطلع اليها، حتى بات بعض شبابها يشعر بالغربة في وطنه، وأصاب انتماء بعضه الاخر اليه نوع من الوهن، مما جعله يبحث عن أي سبيل للهروب من هذا الواقع بما في ذلك الهجرة غير الشرعية التي قد تؤدي به الى التهلكة، أو الانخراط المدمر في القوى المتحاربة والتنظيمات الإرهابية...
- مشكلة الافتقار إلى القيادات والتصحر السياسي:
من أهم وأبرز خصائص ثورات "الربيع العربي" أنها كانت قاعدية وشعبية وعفوية، وأنها كانت احتجاجا تلقائيا مفاجئا على التهميش والظلم وغياب الحريات والحقوق العامة، وأنها كانت بدون قيادات وبدون بدائل.
وقد كشف سقوط الأنظمة السابقة، والأحزاب الآحادية الحاكمة، على إثر ثورات "الربيع العربي" عن حالة من التصحر السياسي المفزع الناجم بالأساس عن عدة عقود من غياب حياة سياسية تعددية تسمح بتكوين أجيال جديدة متعاقبة من السياسيين القادرين على استلام المشعل عند الاقتضاء.
ولأن الثورات كانت تلقائية وبدون قيادات، وبدون برامج فإنها أفضت الى حالة من الفراغ التي تم ملؤها بالاستعانة ب:
- وافدين من الخارج، من وراء الصحاري او من وراء البحار، دون أن تكون لهم معرفة بواقع البلاد ولا بدواليب الإدارة والدولة.
- معارضين خارجين من السجون، أو متابعين ممنوعين من ممارسة أي نشاط سياسي.
- تكنوقراط أو خبراء لا سياسيين من الداخل ومن الخارج، قد يتوفرون على بعض الخبرات النظرية لكنهم يفتقرون الى الخبرة التطبيقية التي تمكنهم من تنزيل معارفهم في الواقع المعيش.
وقد أدى ذلك الى حالة من عدم الاستقرار الحكومي إذ تعاقبت في وقت قصير العديد من الحكومات التي عجزت عن تثبيت أنظمة سياسية بديلة قوية وقادرة على إنتاج مشاريع سياسيةواقتصادية واجتماعية وثقافية كفيلة بتذليل الصعوبات القائمة والتأسيس لمجتمعات جديدة مغايرة.
- صعود الإسلام السياسي والصراع الديني العلماني:
لقد كشفت ثورات "الربيع العربي" عن أنها تعرف ما لا تريد، ولكنها لا تعرف البديل الذي يمكن أن يحل محله.
ولأن الأحزاب الدينية هي التي كانت تتوفر، ولو في الخفاء، على هياكل منظمة، فإنها عملت على ملء هذا الفراغ، وقد بدا واضحا أنها هي المؤهلة لتحل محل الأنظمة المتداعية، وبالفعل فإنها سارعت الى الركوب على الثورات في أكثر من دولة عربية وخاصة في مصر، حيث تمكنت من استلام مقاليد السلطة، من خلال تحقيق الأغلبية في الانتخابات.
وقد أثر الطابع الديني الذي أضفته الحركات الإسلامية على ثورات "الربيع العربي" تأثيرا سلبيا في الداخل والخارج على حد سواء.
ففي الداخل كان من الطبيعي أن تصطدم بالتيار العلماني، حيث أنها تقوم على مبدإ إلغاء الآخر وتتطلع إلى أدلجة المجتمعات وتطبيق الشريعة، والاستغناء عن القوانين الوضعية ونظم الحكم الديمقراطية... إما بالتدريج، بالنسبة الى بعضها (الإخوان المسلمون) أو بالقوة (الحركات السلفية والجهادية).
ثم إن أجندات هذه الحركات أجندات محافظة في جوهرها، وهي لذلك بعيدة عن الأهدافالتي تطلعت اليها الثورات العربية ولم تكن قادرة على تلبية هذه التطلعات.
وإلى ذلك فإن هذه الحركات أثبتت من خلال ممارستها القصيرة للحكم أنها تفتقد للحد الأدنى من الخبرة بإدارة الدول، وبالتعامل مع المجتمعات.
أما بالنسبة الى الخارج فان الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة مشروع الشرق الأوسط الكبير والدول الغربية عامة سرعان ما اكتشفت أنها أساءت التقدير وأن حساباتها كانت خاطئة عندما راهنت على صعود ما تسميه إسلاما معتدلا يرفض العنف ويساير مصالحها، ذلك أن الحركات الدينية التي صعدت الى الحكم والإجراءات الأولى التي شرعت في اتخاذها أشعرتها بأن وصولها الى السلطة قد يؤدي إلى اعاقة مخططاتها في المنطقة، ولذلك سارعت الى تغيير موقفها منها ومن الأنظمة المتداعية السابقة إذ عادت إلى دعم الإدارات القديمة بالرغم من استبداديتها وهو ما ساهم في تحويل "الربيع العربي" إلى خريف حقيقي.
- تكريس أشكال جديدة من الاقصاء وعودة النعرات العرقية والدينية والطائفية والفئوية:
عن وعي أو عن غير وعي، انجرّت ثورات "الربيع العربي" الى خلخلة أسس العيش المشترك بإحياء أو تأجيج الفوارق العرقية والطائفية والمذهبية في الدول العربية، وهو ما شوّه الحياة السياسية فيها وجعلها عاجزة عن استيعاب وجهات النظر المختلفة وعن فرض الانسجام بين مكونات الشعوب العربية.
وهكذا بات الواقع السياسي العربي مشحونا بالصراعات وأحيانا بحروب مفتوحة بعضها أهلي وبعضها الاخر بين الدول والتحالفات وذلك بدلا من أن يكرس قيم "التعايش المشترك" و"تبادل المصالح"،داخل الشعوب وفيما بينها...
وقد أدى النزوع إلى النهج التمييزي وأحيانا الاستئصالي إلى خلق ازمات داخلية وبينية في الدول العربية، والى عودة الممارسات القمعية السلطوية التي أدت بدورها الى خلق أجواء مشحونة بالتدافع والتنازع بين مكوّنات الشعب الواحد وبين الشعوب العربية المتجاورة، وحتى غير المتجاورة...
- الثورات المضادة:
من الحقائق الكبرى التي أثبتتها ثورات "الربيع العربي" أن الأنظمة ليست أشخاصا، تنهار بمجرد انهيارهم، وانما هي مجموعة من التحالفات المعقدة بين قوى سياسية واقتصادية ومالية وإعلامية متجذرة في مفاصل الدول ولها مصالحها وامتيازاتها التي لا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة، والتي ستعمل، إن افتكت منها، بكل الوسائل على استرجاعها، كما ستعمل على تعطيل بناء النظام الجديد الذي يقوم على الديمقراطية والشفافية.
ومن هذا المنطلق، فقد كان من الطبيعي ومن المنتظر أن تعمل هذه القوى التي تمثل ما يسمى بالدولة العميقة على استعادة سيطرتها على أجهزة الحكم والإدارة، وقد استخدمت في ذلك عدة وسائل منها:
- التشكيك في مشروعية الثورات من حيث مبرراتها وأهدافها، وخاصة نتائجها.
- تشويه الثورات بواسطة الاعلام المضاد.
- إشاعة الفوضى ومظاهر الارباك في مختلف مجالات الحياة.
- التحالف مع القوى الأجنبية الإقليمية والدولية المناوئة للثورات العربية (خاصة الأنظمة الخليجية التي تخشى من تسرب العدوى اليها) من أجل إجهاضها.
- دفع النخب الى الاستقالة واختيار موقف المتفرج على ما يجري أو توظيفها في تكريس مشاعر اليأس والإحباط التي تسيطر على الكثير من الناس، وذلك بدلا من أن تقدم ما كان يفترض أن تقدمه من تصورات وسيناريوهات مستقبلية تبعث على الحماسة من جهة والاطمئنان من جهة أخرى إلى أن هناك مستقبلا مختلفا ينتظر الداعمين للتغيير والحرية.
- العمل بكل الوسائل الممكنة على تطويق الثورات ومنعها من تحقيق تطلعاتها وعلى استعادة السيطرة على مقاليد الحكم والإدارة وإعادة العمل بالسياسات القديمة، وأحيانا بما هو أسوأ منها.
- توظيف الاختلال القائم في ميزان القوى بين أنصار الثورات الذين يفتقرون الى الخبرات اللازمة لتصور وتنفيذ برامج التغيير الذي تطمح اليه الشعوب، وبين أعدائها الذين يملكون من المعارف والخبرات بإدارة أجهزة الحكم وتسيير السياسات العامة ما يساعدهم على استرداد مواقعهم ونفوذهم خاصة في ظل التحالفات المصلحية التي عقدوها مع القوى الطبقية ومع الفئات المستفيدة من الأنظمة المتداعية.
- الانتهازية وانتشار عقلية الغنيمة:
في الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي يوم 23 أكتوبر 2012 في المجلس الوطني التأسيسي بمناسبة مرور سنة على انتخاب أعضائه، نقرأ الفقرة التالية: "ماذا يجب ان نوفر معا من أجل تحقيق المصلحة الجماعية؟ في هذا الظرف الدقيق الذي بدأ فيه اقتصادنا يخرج من منطقة الخطر ويدخل في النقاهة وذلك عبر عودة الاستثمار الخارجي والسياحة وليس فقط نتيجة الغيث النافع، واجب القوى الاجتماعية وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي نحيّي الدور الذي لعبه مؤخرا في دفع الحوار الوطني، هو إعطاء الوقت للوقت لتعود الآلة الاقتصادية للدوران، وآنذاك ستكبر الكعكة ونجد ما نقتسم. أما ان نطالب باقتسام كعكة هزيلة مانعين تطورها فهذه سياسة قد تعود علينا جميعا بالوبال".
إن هذه الفقرة تعبر ببلاغة منقطعة النظير عما سمي ب"عقلية الغنيمة" التي روجت لها، في البداية، الأحزاب الدينية، غير أنها ما لبثت أن عمت المجتمع بكافة مكوناته، وأصبحت منهج تفكير وعمل عند النخب وعند العامة على حد سواء...
وقد أدت هذه العقلية المنحرفة الى تفشي الانتهازية وتكاثر الانتهازيين، كما أدت الى انتشار الفساد والخروج على القانون بكافة أشكالهما في كافة مرافق الحياة وعند كافة الطبقات التي لم تعد تجد حرجا في الاستحواذ على نصيبها من الغنيمة، بالحسنى إن أمكن أو بالقوة او الحيلة، ان لزم الامر...
ب‌) الأسباب الخارجية:
- الدور الأمريكي الغربي:
يقول نعوم تشومسكي، جوابا على سؤال عن أسباب انتكاسة الربيع العربي: "في حالة الربيع العربي لقد دعّم أوباما، تمامًا مثل حلفائه، الديكتاتوريات القائمة، واستمر في دعمه هذا لأطول وقت ممكن. وعلاوة على ذلك فقد راهن أوباما وحلفاؤه على إعادة تثبيت هذه الأنظمة القديمة بعد هذه الثورات".
إن هذه الفقرة تؤكد أن الولايات المتحدة لعبت هي وحليفاتها من الدول الغربية دورا في مختلف المراحل التي سبقت ثورات "الربيع العربي" والتي رافقت قيامها، ثم التي جاءت بعدها.
وهذا الدور إما غير مباشر واما مباشر.
أما الدور غير المباشر فهو يتمثل، كما يرى بعض المحللين، في أن انفجار الثورات العربية جاء نتيجة لعمل طويل النفس قامت به الولايات المتحدة وحليفاتها طيلة عقود من الزمن وبكلفة مئات مليارات الدولارات في مراكز الأبحاث والمعاهد الغربية والدولية، من خلال تكوين "نخب" من الخبراء والمفكرين والناشطين العرب الذين لعبوا،بشكل من الأشكال، أدوارا خطيرة في التهيئة لثورات "الربيع العربي"، من خلال:
* دعم الأنظمة العربية في سياساتها التي كرست الفساد والاستبداد والتبعية للخارج وبالتحديد للدول الغربية.
* العمل على تأمين مصالح الدول الغربية، عبر التبشير بمزايا الانفتاح على الغرب والانخراط في المنظومة الاقتصادية الدولية وافساح المجال أمام توسّع رأس المال، وخوصصة الثروات العامة، وتشجيع الاستثمار الخارجي.
* مساندة انعزال الدول العربية عن بعضها البعض، وتكريس نزعة الانفرادية في مقاربة القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وهو ما تجلى في طريقة تعاطيها مع مسيرة السلام في الشرق الاوسط.
* المساهمة في توفير المناخ الملائم لتفتيت الجغرافيا السياسية العربية والإقليمية وتحويلها الى "كيانات" طائفية واثنية، واستبدال السلطات الاستبدادية المركزية بسلطات جهوية ومحلية لا يمكن ان تكون الا أكثر تبعية وقابلية للاحترابالداخلي وخوض الحروب بالوكالة.
* الدعوة الى تكريس الحريات الفردية مع التركيز على حرية المعتقد وحقوق الانسان وخاصة منها حقوق الأقليات، لا كوسيلة لضمان حقوق الإنسان العربي والنهوض به، وانما كوسيلة للتمويه على دورها في خدمة الأنظمة الاستبدادية من ناحية، والمصالح الغربية من ناحية اخرى.
* الترويج، في مرحلة ما بعد الثورة، لفكرة أنه لا وجود لأسس لإعادة بناء الدولة العربية، غير الأسس التي توجد في وصفات المؤسسات الغربية والدولية المنبثقة عنها، رغم أنها كانت سببا في تآكل دور الدول وشرذمة المجتمعات.
أما الدور المباشر، فإننا نستطيع أن نتلمّسه خاصة من خلال تجربة مصر، وبدرجة أقل تجربة تونس.
ففيما يتعلق بالتجربة المصرية ينبغي التذكير بأن الرئيس الامريكي السابق باراك أوباما، عندما أراد ان يخاطب العالم العربي وأن يدعوه الى التغيير على كافة الأصعدة، اختار أن يخاطبه من القاهرة. وقد جاء خطابه الشهير هذا في مطلع شهر جويلية 2009 أي قبل سنة ونصف من ثورات "الربيع العربي"...
على أن الولايات المتحدة التي احتفت، في البداية، بالثورة المصرية، سرعان ما غيرت موقفها منها عندما لاحظت انها أفسحت المجال لصعود الاخوان المسلمين الى سدة الحكم، ومعلوم أنها أيدت او على الأقل غضت النظر عن الإطاحة عسكريا بنظام الرئيس محمد مرسي.
أما بالنسبة الى تونس التي اطلق الغرب على ثورتها اسم "ثورة الياسمين"، فإننا يمكن أن نستخلص أن الدول الكبرى أغدقت عليها، على مستوى الخطاب، أجمل الاوصاف، وهي الى حد الان لا تفتا تردد أن تونس هي آخر منارات الأمل المتبقِّية من الربيع العربي، وأنها البلد الوحيد الذي سار بخطى ثابتة على طريق الانتقال الديمقراطي الوعرة، غير أنها على المستوى العملي لا تقدم لها ما ينبغي من الدعم، فهي من ناحية أولى، لم تَفِ بما قطعته على نفسها من وعود خاصة في قمة مجموعة الثمانية المنعقدة في أواخر ماي 2011 بدوفيل، ومن ناحية ثانية اتجه الاتِّحاد الأوروبي شريكها الاقتصادي الأول لا فحسب نحو الامساك عن مساعدتها على مواجهة الصعوبات التي تعرفها، بل نحو مفاقمة هذه الصعوبات حيث عمد في نهاية سنة 2017 وبداية سنة 2018 إلى ادراجها في بعض القائمات السوداء (قائمة الملاذات الضريبية، ثم قائمة الدول الأكثر عرضة لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب...) وهو ما مثِّل ضربة قوية للجهود التي تبذلها من أجل مواصلة بناء ديمقراطيتها الفتية التي ما تزال هشة، ومن أجل الخروج من أزمتها الاقتصادية والماليةالناجمة في جزء منها عن الهجمات الإرهابية التي كانت ضحيتها سنتي 2015 و2016.
ومن الطبيعي أن يشعر التونسيون بخيبة الامل من سلوك الدول الغربية "المنافق" الذي يبدي، في العلن، سعادته بالثورة وبمكاسبها (خطوات على طريق الانتقال الديمقراطي وخاصة منها اصدار الدستور الجديد، وتنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية الحرّة والنزيهة، وإقرار التعدُّدية الحزبية والحرِّيات السياسية...)، وقد وصل به الامر الى حد منح تونس جائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2015، ولكنه في السر يقرن دعمه بشروط أقسى من الشروط التي كان يفرضها قبل الثورة.
وقد لا يذهب التونسيون إلى حد الاعتقاد أن الولايات المتحدة وحليفاتها تعمل على إفشال ثورتهم لكنهم يحسون في المقابل بنوع من الغبن، لانهم يشعرون بأنَّتونس تُركَتْ وحدها لتواجه صعوبات الفترة الانتقالية التي أعقبت الثورة، ولان الدعم الذي يطلبونة من شريكهم الأول الاتحاد الأوروبي ليس على سبيل الهبات أو المساعدات، وانما هو إرساء قواعد شراكة حقيقية ومتوازنة ومتضامنة وأكثر انصافا للجانب التونسي خاصة فيما يتعلق بجانبها التجاري، وهو ما لا يمكن أن تحققه اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق التي يدفع الاتحاد تونس دفعا إلى الموافقة عليها وتوقيعها...
إن ما تريده تونس هو شراكة تمكنها من فرصة لبناء الاقتصاد التونسي وضمان نموه بشكل حيوي وقوي ومتماسك، يمكنها من تجاوز مخلفات المصاعب التي عرفتها جراء سلسلة الهجمات الإرهابية التي كانت ضحيتها خلال السنوات الماضية وهو ما اضطرها إلى الترفيع في إنفاقها العسكري والأمني الشيء الذي انعكس على الوضع الاجتماعي وتعقيداته الناجمة عن تزايد صعوبة الحياة اليومية، بسبب ارتفاع نسبة التضخم وزيادة الأسعار وتدهور قيمة الدينار واستمرار معدلات البطالة المرتفعة.
- الدور الاسرائيلي:
أبدت إسرائيل اهتماما كبيرا بثورات "الربيع العربي"، وخاصة منها الثورة المصرية ويبدو من خلال المادة الإعلامية وبعض مواقف الرسميين الإسرائيليين أنها شعرت بالفزع من هذه الثورات التي افترضت أنها ستنعكس على "أمنها القومي" و"مَنَعَتِها الاقتصادية" وبيئتها الإقليمية، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تحتفي بالثورات المضادة بل أن تعمل وأن تساعد على تحق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.