بقلم: د. سلوى العباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي تلقت "الصباح نيوز" مقال رأي من الدكتورة سلوى العباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي حول غياب النخبة المثقفة عن المشهد ،وتساءلت عن أسباب عدم اسهامهم في بناء ثقافة حكم جديدة تنتشل البلاد من فوضى الصّراعات والتّجاذبات. وفي ما يلي نص المقال: - هل يجسّد المثقّف في تونس أنموذج الفاعل السياسيّ القادر على إحداث التغيير الإيجابي لمنظومة الحكم وخاصّة على عقلنة المشهد الانتخابيّ و تصحيحه و تقويمه؟ - لماذا بقي عدد كبير من المثقّفين على هامش الحراك السياسي الفكري الاجتماعي المطلوب ولم يسهموا حدّ الآن في بناء ثقافة حكم جديدة تنتشل البلاد من فوضى الصّراعات والتّجاذبات وتضع حدّا لتنافر المشاريع الحزبيّة و مهزلة التّوافقات المغشوشة؟ - متى يتملّص المثقف التونسيّ من سطوة التوظيف الحزبيّ وربقة الاستغلال والإغراء بالمناصب والمواقع ليصبح ضمير الوطن الحيّ وصوت الثقافة والمعرفة في السياسة و المجتمع ؟ أسئلة نعتقد أنّه من الوجيهيّ طرحها في هذه اللّحظة بالذات من لحظات طور انتقاليّ ثالث من أطوار تدرّجنا البطيء نحو الديمقراطيّة الناّجعة لأنّ ديمقراطيّتنا الحاليّة لم تتعدّ كونها ديمقراطيّة فاشلة ما دامت تغذي الصراعات والتباغض أكثر مما توجد حلولا مجدية لمشاكل البلاد وفي مقدّمتها الاقتصاد والتّنمية. نطالب حاليا دون تردّد بإعادة التّفكير في شبكة أدوار المثقّف التونسي التي وجب تفعيلها في المرحلة القادمة قبل محطة انتخابات وبعدها2019، لأننا بتنا نخشى أكثر من السّابق غبن هدا الفاعل السياسي الاجتماعي واستقالته وكمونه أو حياده عن وظائفه الأصليّة في ظلّ استمرار المشهد الانتخابي الحاليّ ذاته بعقمه وقتامته على وتشظيه وانهياره مدى سنوات أخرى. وقتها سيتحمّل هذا المثقّف أكثر من غيره مسؤولية تعمّق الازمات واستفحال الفشل ويكون قبل سواه من أبرز مسببي تفاقم العجز عن إنقاذ البلاد وعن إيجاد الحلول العاجلة والآجلة لما يجابهه الشّعب التونسي من مشاكل حادّة في الاقتصاد والتنمية والتّشغيل والتّعليم والصّحة والثّقافة وكل المجالات. و قد نجد في هذا السياق فهما مقنعا لتواصل حالة الاستقالة والكمون لدى شريحة كبرى من مثقّفي تونس نساء ورجالا حالة ،خاصة حينما يرافقها نفور النّخبة الواعية من الانخراط في العمل السياسيّ للأحزاب مقابل اختيار البقاء على هامش دوائر المعارك الحزبية و وبمنأى عن حمّى السجالات وأضواء الشهرة الإعلامية ،لكن لا شيء يبرّر عدم الانخراط الواعي المسؤول لتلك النّخبة -وعددها غير قليل - في مهمّة ترشيد الخطاب السياسي وعقلنته وحتى تفكيكه وإعادة تشكيله على قاعدة المنطقي والنافع والوجيه فهي الأدوار الأساسية للمثقّف العضويّ ما لم يكن بوق دعاية للسلطة أو أداة حزبية بلا منفعة. والأخطر من كلّ ذلك ما بتنا نلحظه من عزوف تامّ لدى المثقفات والمثقفين عن المشاركة في الانتخابات وهي ظاهرة تكشفها النّسب المسجّلة عن نوايا التّصويت لتسفر عن إحدى الحقائق المفزعة كون المثقف العضويّ بمفاهيمه الوظيفيّة التي نحتاجها حاليا، لم يعد له وجود فاعل في تونس فهو المستقيل بإرادته أو المقال بقصد ونيّة لا تخفى عن عاقل متبصّر. يحدث هذا في زمن الأحزاب الكثيرة المتكثّرة والأحزاب المتغايرة المتغيّرة المتكسّرة، والأحزاب المتنافرة المتصارعة "المرسكلة" أو المعاد بناؤها دون جدوى، لاسيّما مع ضبابيّة مشاريعها وترنّح أطاريحها الإيديولوجية وبقاء معظمها في دوائر الفكر الإيديولوجي الشّموليّ المحنّط المتحجّر الذي لا يلبّي انتظارات النّاخب التونسي ولا تقنعه منها شعارات مناجزة الخصوم وحمّى الاستبعاد والإقصاء دون برنامج إنقاذ حقيقيّة لهذا الوطن، والأدهى من كلّ ذلك أنّ الناخب التونسي أضحى خبيرا عليما بصورة مسبقة بأنّ كلّ هذه المعارك الحزبية ستفضي مجدّدا إلى استنساخ تجارب مشابهة وسيتعاود في نهاية المعركة المشهد الائتلافي الممجوج ذاته مكررا منظومة حكم "المتن" مع "الحاشية" وسنبتلع جميعنا نفس الطّعم ونحيا نفس المقلب أو ذات المنقلب الذي ينتهي غالبا إلى "انتخاب لئيم" و توافق مغشوش وائتلافات غير منسجمة تحمل داخلها أسباب فرقعتها ثمّ سقوطها وإجهاضها حتّى قبل أن تولد. لنحيا بعدها طيلة سنوات على إيقاع تخبّط في السياسات العامّة وتعطّل في المسائل الحيويّة و عراك عنيف في المجلس وعلى منابر الإعلام وعجز مريع عن إدارة شؤون البلاد وحلّ مشاكل العباد ، و سوء توظيف لمؤسسّات الحكم وتصارع مقيت بين السلطتين التنفيذية والتشريعيّة وغياب مشاريع الحوكمة التشاركيّة وبقاء نظام سياسي أعرج هجين محكوم برأسين أو رؤوس ثلاثة تتناطح علنا أو في الخفاء، فلا تثير في نفوس التونسيين والتونسيات غير مشاعر الضحك والإشفاق أو السّخط والاشمئزاز. لم يعد أمام المثقّف التونسي،إذن وأمام إمكانية تواصل هذه المهازل الانتخابية واهتراء الثقافة السياسيّة سوى أن يبرهن قبل فوات الأوان وقبل ضياع البلاد إلى الأبد ،على أنّه باستطاعته أن يجسّد قوّة الفاعل المنتظر حامل مشروع التغيير الجذريّ الشامل لكلّ الآليات المعطوبة، معتمدا في ذلك اوّلا على قناعاته ومبادئه الوطنيّة التي تأبى الانتهازية والاستقالة كما الاستغلال وتؤمن بداهة بالوحدة الوطنيّة لا الائتلافات الحزبية الفوقية لأنظمة الحكم الهشّة المتهافتة ،ليصبح من واجبه ثانيا توظيف مخزون خبراته و معارفه وتجاربه والاسهام الفاعل بالساعد والفكر والقلم في الارتقاء بمستوى الخطاب السياسي التونسي لما بعد الثورة و تطوير نوعية مفرداته وانتقاء سجلاته،وعلى أساس ذلك يأتي دوره النّوعيّ النخبوي في إضفاء القيمة والأخلاق على الظاهرة السياسية برمّتها ، وقد أضحت عنيفة سخيفة تفتقر إلى أبسط قواعد "الإيتيقا" وأخلاقيات الحوار والمشاركة بموضوعية ومصداقيّة ونجاعة. حريّ بهذا المثقّف أن يكوّن جبهة عريضة من الفاعلين التغييريّين مهامهم تفكيريّة تطويريّة تقويميّة بالأساس ، وهدفها في النهاية مسك دفّة التوجيه الاستقطابي السياسي و التحكّم في أساليب التأثير في الرأي العامّ وطرق تشكيل الخارطة السياسية. لن يعجز المثقّف التّونسي أن يكون سلطة وعي وتوعية بمدى خطورة عمل آليات بعض الأحزاب و المنظومات السياسية وأن يفضح بعقلانية وعلم أسلوب إدارتها حملاتها الانتخابية ،فيكون لهذا المثقف دور إقناع النّاخب البسيط و توعية المواطن العاديّ والترشيد الذاتي والجماعيّ لموقفه الانتخابي والخروج به من موقع "القطيع" أو النّاخب الطّامع في فتات العطايا و"الجزية" الانتخابيّة إلى موقع المواطن الواعي المسؤول عن خياراته بحريّة واستقلاليّة. لم يعد لوجود المثقّف أيّ معنى ما لم يفلح في تغيير الفعل الانتخابي وإعلاء مبادئ الاستحقاق و الجدارة وما لم يكبح الاندفاع غير الواعي نحو التجاذب الفوضوي وما لم يلجم الأصوات الناشزة للاستقطابات الثنائية بأنواعها، فيضع حدّا لكلّ ضروب المعارك الاقتسامية والانقسامية معا، تلك التي فتّتت وحدة المجتمع التونسي وحجبت سبل الخلاص الذي لا يكون إلاّ جماعيا في نطاق مشروع وطنيّ مجتمعيّ تنموي ثقافي اقتصادي تربويّ موحّد ينقذ البلاد ويعيد بناء هذا الوطن لبنة لبنة باعتبار منوال الحاجات الفعليّة وباعتماد المرجعيات الوطنيّة دون سواها في سياسة الإصلاحات وتمويلها وتنفيذها. لا قيمة للمثقف سياسيا متحزّبا أو مستقلاّ أو ناخبا ما لم يشكّل قوة اقتراح ضاغط يكون أجدر من سواه بوظيفة حلّ المشكلات لا افتعالها ومنها ضرورة تسلّحه بالمعرفة و تكثيف إنتاجه الفكري والثقافي والتعبير عن حضوره الفاعل في منابر الرأي وتبادل الحوار وإسهامه النيّر في رسم مخططات الإنقاذ التي قد تضع حدّا للمديونية وانعدام الإنتاجية والاستثمار وتوقف بالموازاة نزيف الأدمغة وهجرة الكفاءات لتعيد الأمل إلى الشباب المعطّل عن العمل بتغيير خارطة التفكير في الحلول وآليات معالجتها التي لا يمكن أن تظلّ نابعة من رؤى حزبية مصلحية ضيقة ولا تابعة لمناويل عمل تقليديّة متقادمة تديرها عقول عديمة المعرفة أو متكلّسة ترفض التغيير أو ذوات انتهازية تعمل لصالح الأفراد لا الوطن. المثقف التونسي ذلك الحاضر الغائب في مشهد سياسي قاتم اختلطت ألوانه حتى فقد ملامحه ورسومه وهو يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى فاعل سياسي عقلاني متعقّل هو فقط من باستطاعته أن يعيد إل واقعنا المأزوم البهجة والنّصاعة حينما لا تعلو في الآفاق راية غير راية هذا الوطن.