صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : الباحث محسن التليلي ل «الشروق»
نشر في الشروق يوم 27 - 08 - 2012


المنتدى

«المنتدى» فضاء جديد للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر ، تبتعد عن ذلك إلى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة إثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الباحث التونسي محسن التليلي الأستاذ المحاضر للتعليم العالي بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة والّذي اشتغل على العديد من القضايا منها خاصة المتعلقة بالحضارة والتحولات الاجتماعيّة في المجتمع العربي الإسلامي.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات.

وبإمكان السادة القراء العودة إلى هذه الحوارات عبر الموقع الإلكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.
إنّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا إلى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الإعلاميّة اليوم، إنّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و»جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين - من مختلف الاختصاصات- ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والإنسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها ، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة – في حدود 400 كلمة ) وبإمكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي
:[email protected].

هل توافقون على تسمية الأحداث/المنعرج في تاريخ تونس المعاصر وبعض البلدان العربيّة بالثورة أم أنّكم تميلون إلى استخدام مصطلح أو مصطلحات أخرى لتسمية ما جرى كما يحصل في مراجعات وتصريحات بعض المختصّين والأكاديميّين؟

لنكن صريحين في القول بأنّ ما يُحدِث السؤال والإرباك في تحديد المفهوم بالنسبة إلى ما جرى في تونس – وربّما ما يجري أيضا وسيجري في أقطار ومجتمعات عربيّة أخرى - ثلاث مسائل على قدر كبير من الأهميّة وضرورة المراقبة والمتابعة المسألة الأولى صعود الإسلاميّين إلى صدارة حكم الدولة على أرضيّة جديدة من قيم الحريّة والكرامة والعدل والديمقراطيّة لم يكونوا في صدارة المطالبين بها والموافقين على كلّ تصوّراتها بقدر ما كانوا ضحايا الإقصاء السياسي للأنظمة المستبدّة التي كانت ترفض مبدأ التداول لهم ولغيرهم استنادا للقوّة السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الغربيّة (في أوروبا وأمريكا) التي كانت تعترض على وصول الإسلاميّين إلى السلطة والحكم، المسألة الثانية الحجم الكمّي الانتخابي الذي حصده الإسلاميّون في أوّل اختبار انتخابي «ديمقراطي» ممّا منحهم شرعيّة شعبيّة زاد من فعلها وحجمها تحالف بعض الأحزاب المحسوبة على التوجّه المدني معهم، وهو أمر قابل للتطوّر في ظلّ التجاذبات الحادّة بين مختلف الفرقاء السياسيّين، المسألة الثالثة سقوط جانب هامّ من الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في إعادة إنتاج أوضاع ما قبل الثورة، سواء من خلال عودة القوى السياسيّة الحاكمة سابقا بصيغ جديدة تستفيد من أوضاع الحريّة والديمقراطيّة التي كانت في السابق تمنعها عن مخالفيها، أو من خلال تفاقم حجم البطالة ومظاهر الاحتجاج والمطلبيّة لأسباب موضوعيّة تفوق قدرة الائتلاف الحاكم الذي أفرزته الانتخابات الشرعيّة، إضافة إلى تعثّر مجال الاستثمار والإنتاج وخلق الثروة واستمرار الخلل الهيكلي في ترِكَة البناء الاقتصادي العام.

وجدير بالتنبيه إلى أنّ الثورة التي تعني الإطاحة جذريّا بنظام اجتماعي وسياسي لتعوّضه بنظام آخر يستجيب لمطالبها المنتصرة قد تجلب معها أيضا عناصر من الماضي توافق في مجراها هويّة المجتمع ومنظومة قيمه الرمزيّة الكامنة في النسيجَيْن الثقافي والاجتماعي، وقد تحتاج إلى مراحل وفترات ومنعرجات ونتوءات ومحطّات، وحتّى إلى تراجعات وانتكاسات وهزّات عنيفة...

إنّ التوصيف والتحليل العلمي ثمّ الاستنتاج الموضوعي لما جرى ويجري من أحداث ممكنٌ لا محالة لكنّه يظلّ نسبيّا وظرفيّا وما يزال بحاجة إلى بُعد ضروري ومسافة لازمة لتبيّن الأمر بأكثر تجرّد ودقّة ووضوح، والبادي للعيان أنّ «الثورة» لم تستكمل مراحلها وفصولها بحكم الاعتمال الجاري في خضمّها بين أطراف تتجاذب وتتنافر وتصعد وتنزل، وبفعل تدخّل العوامل الأجنبيّة عبر الضغط المالي والسياسي والاقتصادي والتقني والثقافي فضلا عن العوامل الداخليّة الحُبلى بالمفاجآت أيضا.

كيف ترون العلاقة اليوم بين الجهات والفئات والقوى التي أطاحت بالاستبداد من ناحية ودور النخب الفكريّة والقيادات السياسيّة من ناحية أخرى؟ هل تعتقدون أنّ النخب والقيادات تؤدّي دورها كما ينبغي في الدفع بأوضاع البلاد نحو الأفضل؟

كلاهما في واد وخطوط التفاعل بينهما ضعيفة ولا تخلو من حسابات ظرفيّة انتخابيّة وانتهازيّة، فالجهات والفئات والقوى التي ساهمت بغزارة في الإطاحة بالاستبداد حاسمة، أو تكاد، في السياسة لأنّ مطالبها الملحّة والآنيّة والمستقبليّة بالأساس اجتماعيّة في مستوى الشغل ولقمة العيش والغذاء والصحّة والسكن، أمّا النخب الفكريّة والقيادات السياسيّة فهمّها فكري وإيديولوجي وسياسي بهدف الإقناع بالمشاريع البديلة والإنجازات الانتخابيّة «الكبرى»، والحقّ أنّ المطلبَيْن مشروعان ولا بدّ من عمليّة الوصل بينهما عبر آليّة البدائل الممكنة وإضفاء الرقابة على المال السياسي والحرص على مبدأ المساواة في وسائل الإعلام والاتّصال وغيرها من المستحقّات... وهذه المجالات والاستحقاقات كلّها ما زالت محلّ تجاذب وتلاعب وأخذ وردّ بسبب أهمّيتها في حسم النتائج الانتخابيّة.

إنّ أداء النخب والقيادات في الدفع بأوضاع البلاد نحو الأفضل ضعيف جدّا مقارنة بحجم الإمكانيّات الذهنيّة والفكريّة والإعلاميّة وحجم القوى السياسيّة وعدد الأحزاب المتوفّرة على الساحة، ولهذا الضعف أسباب هي بمثابة الأمراض المستفحلة لدى السياسيّين في المجتمعات المتخلّفة تتعلّق بتصوّر السياسة والدولة والحكم، ومنها الصراع على السلطة باعتبارها أداة للتحكّم في الدولة والمجتمع، والرغبة في الحصول على المنصب مهما كان الأمر باعتباره أداة لتحقيق المطالب الشخصيّة والفئويّة، وغيرها من التصوّرات والمفاهيم التي تتضارب ومبدأ الثورة على النظام الاستبدادي، حتّى أنّ البعض يُشبّه ما جرى بسقوط رأس النظام فقط أمّا النظام في حدّ ذاته في هياكله ومسالكه وآليّاته وعقليّته فمستمرّ بنفس الأنساق القديمة، وهذا ما يدعو إلى ضرورة ما يمكن تسميته «بالثورة الثقافيّة» للمساهمة في دعم المسار الثوري الذي من المفروض أنّه يسعى لتغيير الأوضاع جذريّا، ولكم أن تتابعوا ما يجري بتونس ما بعد الثورة في المجالَيْن التربوي والثقافي لتقفوا على ضعف الإرادات والسياسات والإمكانيّات المرصودة لإنجاح العمل الثوري وإيصاله إلى أبعد مدى ممكن.
كيف تقيّم اليوم - انطلاقا من موقعك الجامعي وتجربتك لسياسيّة - الوضع العام بالبلاد بعد أكثر من سنة على الثورة وقرابة السنة على انتخاب المجلس الوطني التأسيسي وتولّي الحكومة الانتقاليّة الحاليّة تسيير الحكم؟

تقييمي أنّ الوضع العامّ طبيعي ومفهوم في ضوء التجاذبات والمنافسات والإرهاصات الاجتماعيّة والسياسيّة، رغم حدّة بعض بُؤر التوتّر والصدام والعنف وسوء الفهم والتقدير والعثرات من هذا الطرف أو ذاك في المجتمع أو السلطة أو المعارضة، وحتّى انتخاب المجلس التأسيسي فيبدو أنّه لم يهدّئ من وتيرة الصراع والتجاذب بسبب ما تضخّه حركة النهضة من إشارات ومفاهيم ومصطلحات وتعبيرات مرجعيّتها صادمة لما أَلِفَتْه النخبة السياسيّة وقوى المجتمع المدني من قاموس اصطلاحي ومفاهيمي تعوّدت عليه وأنست به منذ تأسيس مشروع الدولة الحديثة التي آلت بعد نصف قرن من «التاريخ الظالم» لمناطق وفئات بأكملها إلى انحرافات خطيرة لا تناسب مبادئ الحداثة والتقدّم... هذا لا يعني البتّة أنّ الحلّ في الرجوع الحَرْفي إلى الماضي البعيد وما تجاوزه التاريخ الإنساني من طريقة في التفكير والسلوك واتّباع الخَلف على أساس أنّه ليس بالإمكان أحسن ممّا كان، بل الحلّ في الإبداع والابتكار على أساس الحاضر والمستقبل استلهاما من قيمنا الأصيلة التي أثبتت جدواها في سيرورة الحضارة الكونيّة.

أمّا عن تقييم أداء الحكومة الحاليّة فيمكن القول إنّه رغم جهدها المبذول بغزارة واضحة فهي عمليّا تبدو في شبه مأزق حقيقي تُرهق نفسها وتُثقلها بأعباء ليست في الأصل من مشاغلها لأنّها حكومة قامت على المحاصصة الحزبيّة والإيديولوجيّة وتحصيل الامتيازات الماديّة وزيادة الإنفاق والرغبة في الحكم بآليّات لا تتوافق والمبدأ الذي قامت على أساسه الانتخابات وهو وضع دستور توافقي يجمع كلّ التونسيّين، كما أنّها لا تنسجم في تركيبتها ومنهج عملها ومبادئ الثورة المُعلنة في شعارات واضحة ها هي تعود لترتفع بحدّة في أماكن انطلاقها الأولى بسيدي بوزيد والقصرين وغيرها، في حين كان من المفروض والمعقول أن تكون هذه الحكومة حكومة كفاءات «ثوريّة» لتسيير أعمال عاجلة وفق خطّة طريق واضحة يضبطها المجلس الوطني التأسيسي بناء على مستحقّات الثورة خاصّة في الجهات ولدى الفئات التي فجّرتها وضحّت من أجلها حتّى أنجحتها.

البعض يبدون تخوّفا من ظاهرة الصعود السياسي للإسلاميّين بمختلف تيّاراتهم ... كيف يمكن في نظركم إزاء المشهد الديني والسياسي في تونس اليوم قراءة مسألة العلاقة بين الدين والدولة من وجهة نظر اختصاصكم الأكاديمي؟

الدين والدولة في تاريخ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة من الجوانب الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة وجهان لعملة واحدة، وإذا استثنينا بعض التجارب الحديثة جدّا في بعض المجتمعات العربيّة كالمجتمع التونسي زمَنَ بورقيبة فإنّ المجال الديني والشرعي يكاد يفرض نفسه ويرمي بظلاله على كلّ شؤون الحياة وفي كلّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة خاصّة في الأوساط الشعبيّة.

لاحظوا أنّ تسمية «حزب» للتعبير عن هذا التنظيم السياسي الحديث والعصري مرجعها تقليدي ديني، وأنّ مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة كانت في الأصل مشروعا دينيّا اجتهاديّا توافقيّا بين فقهاء المالكيّة والحنفيّة بتونس منذ سنة 1948 تبنّاه بورقيبة لانسجامه مع القيم الغربيّة في منع التعدّد وحفظ بعض حقوق المرأة وتولّى استصداره باسم الدولة الحديثة... هذا يعني أنّه، وفي أفضل الحالات، كانت الحداثة تتنازل لفائدة الدين في ما يُعرَف بظاهرة «أسلمة الحداثة» باعتبارها مشروعا تفوّق على مشروع آخر كان يسير في اتّجاه مُناقض من خلال محاولة «تحديث الإسلام» التي قامت في تركيا الكماليّة وسرعان ما آلت إلى حداثة على النمط الإسلامي الشرعي، أي إلى أسلمة الحداثة البارز مثلا في صورة المرأة المسلمة الحديثة التي ترتدي بنطلونا على شكل المرأة الغربيّة لكنّها تُتوّجُه في الأعلى بوضع غطاء على رأسها هو من قبيل الحجاب الشرعي...

هذا يعني عمليّا أنّ الظاهرة الدينيّة تثأر لنفسها بالعودة الظافرة بعد إقصاء وحرمان، وهي كذلك في وضع المَزهُوّ والمُعجَب بنفسه حتّى يأخذ مكانه فوق الأرض وتحت الشمس ويتمّ الاعتراف به من قِبَل المجموعات المخالفة كلّها... وهذه الظاهرة لا تُخفي أيضا مظاهر إرباكها من حين لآخر إلى حدّ الوقوع في التناقض والاضطراب والتجاوز والخطإ، وكلّها في رأي الباحث في المجتمعات وخصائصها الحضاريّة مظاهر عاديّة في أوضاع تتوق من خلالها المجتمعات إلى التحرّر من الاستبداد والتعبير عن الهويّة...

هذا ما فهمه الغرب «حسابيّا ومصلحيّا» بعد عقود من المواجهة العنيفة مع الإسلاميّين في لبنان والعراق والسعوديّة وأفغانستان، وفي عقر داره في باريس ومَنْهَاتِنْ ومدريد وغيرها من عواصم شرق آسيا، وهذا ما يجب أن تفهمه وتستعدّ للتعامل معه القوى المختلفة مع الإسلاميّين سياسيّا في بلدانهم الأصليّة على أرضيّة الوفاق الوطني وليس «الصدام» الوطني...

وفي اعتقادي لا خوف البتّة من الصعود السياسي للإسلاميّين طالما هناك يقظة مستمرّة من فعاليّات المجتمع المدني والسياسي المضادّ بهدف خلق التوازن والتفاعل الضروريّين لكلّ تقدّم اجتماعي وحضاري منشود، وإن كان الإسلاميّون يقتحمون مجال المجتمع المدني بجمعيّاتهم الخاصّة بهم إصرارا منهم على تكييف المجتمع لفائدتهم، لكنّ هذا الأمر أيضا لن يفلح عملا بالقيمة الرمزيّة الداعية إلى التنوّع والاختلاف بناءً على المبدإ القرآني الوارد في عبارة «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا»...
إنّ التاريخ الإنساني يصنعه التفاعل الإيجابي بين القوى المختلفة طالما هناك أهداف ومرامٍ مشتركة على أرضيّة واحدة من التوافق تسمح في آن بالاختلاف والائتلاف وبتقاسم الفضاءات والوظائف والأدوار في ضوء علويّة القانون واحترام قواعد اللعبة الديمقراطيّة وضمان حقّ الاختلاف والسماح بحريّة العمل والتنظّم للجميع بما فيهم الأقلّيات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها.

كيف تقيّمون سياسيّا التحالف الحاكم بين أحزاب الترويكا؟ وكيف تجدون أداء الرئاسات الثلاث وخاصّة أداء حكومة السيّد حمّادي الجبالي في تسيير أمور الدولة ومعالجة الملفّات والقضايا الساخنة ومتابعة مجريات الشأن العامّ؟

الترويكا تجربة طريفة في ممارسة الحكم، خاصّة إذا نظرنا إليها من الخارج باعتبارها تحالفا بين تجربتين في التصوّر السياسي، تصوّر ذي مرجعيّة دينيّة تمثّلها حركة النهضة، وآخر ذي مرجعيّة مدنيّة يمثّلها كلّ من المؤتمر والتكتّل، لكن إذا حلّلناها من الداخل من خلال النظر في طبيعة العناصر المؤلّفة للتحالف تبيّن لنا وجود بعض العناصر في المؤتمر والتكتّل مثلا هي أقرب لاختيارات النهضة. وفي كلّ الحالات فإنّ تجربة التحالف الثلاثي في حدّ ذاتها مفيدة للتدرّب على التوافق السياسي المطلوب في هذه المرحلة الانتقاليّة إزاء تحدّيات صعبة يستحيل على طرف سياسي بمفرده النجاح في مواجهتها. ولكن من سلبيّات هذه التجربة اتّجاه حركة النهضة باعتبارها الطرف الأقوى نحو فرض رؤيتها وتوجّهاتها على الحليفَيْن الآخَرَيْن، وقد برز هذا الأمر واضحا في قضيّة البغدادي المحمودي حيث انفرد رئيس الحكومة بالقرار الذي رأته حركته مناسبا للمصلحة السياسيّة من وجهة نظر حزبيّة في حين تمسّك رئيس الجمهوريّة بأولويّة حقوق الإنسان ممّا تولّد عنه خلاف واضح في المواقف ووجهات النظر أدّى إلى تأزّم في العلاقة بين الرئاستين، في الوقت الذي بدت فيه الرئاسة الثالثة للمجلس التأسيسي وكأنّها تكيل بأكثر من مكيال لفائدة حزب حركة النهضة على حساب الأطراف النيابيّة الأخرى وخاصّة المعارضة منها.

أمّا أداء الحكومة فيبدو وكأنّه يتوخّى نفس التمشّي السابق سواء في مستوى الاختيارات الرئيسيّة الكبرى أو في مستوى التعيينات وتوزيع المسؤوليّات أو في مستوى منهج العمل والأداء، ويغلب عليها الطابع الرسمي والمحاصصة الحزبيّة والإنفاق الإداري ممّا يجعل نتائج الأداء محدودة جدّا في مستوى فاعليّة الاستجابة لاستحقاقات الثورة ومطالبها الملحّة. وتبدو الحكومة خافتة في مجال الحسم في قضايا الفساد واستغلال النفوذ، متحرّشة بقطاعَيّ القضاء والإعلام محاولة الهيمنة عليهما أو إرباكهما والتأثير في توجّهاتهما، مُهمِّشَة لقطاعات أساسيّة في بناء المشروع الوطني مثل قطاع التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي بحيث يتمّ السكوت عن مشاكله المتفاقمة سكوتا يطرح أكثر من سؤال حول أولويّات الإصلاح وإعادة النظر والتطوير.

كيف تقيّمون أيضا وضع بقيّة الأحزاب السياسيّة ودور الاتّحاد العام التونسي للشغل وجمعيّات المجتمع المدني وأداء بعض القطاعات الهامّة كالأمن والإعلام والقضاء ودرجة إسهامها في المشهد الوطني الجديد؟

إذا استثنينا أحزاب الترويكا التي باتت تستمدّ حضورها وإشعاعها من وجودها في السلطة فإنّ بقيّة الأحزاب تبدو محدودة النشاط والإشعاع والمواكبة للأحداث إلاّ في مناسبات معلومة وواضحة كما حدث مع بعضها في تحرّكات ولاية سيدي بوزيد الأخيرة. ولا شكّ في أنّ أهمّ ما يشدّ الانتباه في النشاط الحزبي محاولة الاستقطاب التي تسعى إليها بعض التنظيمات في محاور تنظيميّة متشابهة، لعلّ من أبرزها محور نداء تونس الناشط خاصّة في المناطق الساحليّة وبعض المدن الكبرى باعتباره محاولة توازن تسعى إلى محاولة معارضة المحور الذي تمثّله حركة النهضة وحُلفاؤها، وتطغى على هذه المحاور الحسابات السياسيّة الانتخابيّة في اتّجاه واحد هو إزاحة النهضة أو على الأقلّ الحدّ من نفوذها عبر الاستفادة من «أخطائها» وعثراتها وتأليب الرأي العامّ ضدّها في الحقّ والباطل.

أمّا أهمّ ما يمكن ملاحظته بالنسبة إلى الاتّحاد العامّ التونسي للشغل فهو وضعه الصعب إزاء خارطة سياسيّة متبدّلة باتت معادلاتُها في غير صالحه ممّا سيعرّضه لاهتزازات قويّة المستقبلُ وحدَه كفيلٌ بالكشف عن آثارها وأبعادها القريبة والبعيدة إزاء وضع عمّالي واقتصادي صعب وآلة بيرقراطيّة ضخمة وتعدّديّة نقابيّة مُنفلتة عن كلّ حساب ومحدودة الاستجابة لمطالب منظوريها وضغوطاتهم المتزايدة بسبب تدهور مقدرتهم الشرائيّة وخيبة أملهم في الانتظارات المُتَوَقَّعَة التي حلموا بها مع رحيل الدكتاتوريّة وقدوم الربيع «الحارق» والمخيّب للآمال.

ونفس الوضع الصعب ينطبق على أغلب القطاعات الأمنيّة والقضائيّة والإعلاميّة بسبب إرادة الهيمنة الواضحة من الحكومة التي ترفض الاستقلاليّة التامّة لهذه القطاعات الاستراتيجيّة الهامّة، وبسبب مظاهر التجاذب السياسي والاختلاف الإيديولوجي التي باتت تشقّ القطاع الواحد، ومثل هذه المظاهر لم تكُن إبّان الثورة مُتَوَقَّعَة لكنّ وقائع الأيّام وسير الأحداث جاء بما لم يكن مُنتَظَرا باستثناء ما حدث من انتعاش بعض الجمعيّات المدنيّة، خاصّة ما ارتبط منها بالحركات والاتّجاهات الدينيّة.

كيف ترون وضع التجاذب السياسي والإيديولوجي الذي عليه الفرقاء من التيّارات الفكريّة والسياسيّة المختلفة؟ وقد انعكس هذا التجاذب خاصّة على جدول وسير أعمال المجلس الوطني التأسيسي، وكيف تقيّمون أداء هذا المجلس؟

أراه وضعا مغلوطا ولا يستجيب لطبيعة المرحلة التي تقتضي أوّلا وآخِرا صياغة دستور ثوري يلبّي أحلام التونسيّين في الحريّة والكرامة والعدل والديمقراطيّة وكلّ الحقوق الحافظة لهويّتهم ومصالحهم واحتياجاتهم الإنسانيّة التي فرضوها بالشهادة والدم.

التجاذب السياسي والإيديولوجي داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه نتجت عنه مظاهر الشدّ والجذب والمزايدة وحتّى التفرقة والعداوة بين الأحزاب والكتل، وحتّى في داخلها، بسبب التنازع الفكري والحسابات الانتخابيّة والرغبة في السلطة والحكم، في حين أنّ الدستور يقتضي توافقا وطنيّا ضروريّا حول مشروع أعلى يلتقي فيه كلّ الفرقاء بصرف النظر عن منطلقاتهم وأهدافهم التنظيميّة، كأنّ المنهج الذي سقط في ثناياه الجميع بات مقلوبا بحيث سارعوا منذ اللحظات الأولى إلى التموقع الحزبي على أساس سلطة ومعارضة وانزلقوا في التقاذف مؤجّلين التوافق لمرحلة صياغة الدستور، لكنّ هذه المرحلة ستأتي مشحونة بالخلافات وعندها لن يكون التوافق سهلا، في حين كان لابدّ من التوافق حول الدستور أوّلا في انتظار مرحلة الخلاف العاديّة حول البرامج السياسيّة والحزبيّة التي يحسمها الناخبون يوم الاقتراع.

إنّ تغليب الخلاف على التوافق لا يعكس نضجا فكريّا وعمقا سياسيّا مطلوبَيْن بشدّة في هذه المرحلة بالذات، لكنّ تطوّر الأحداث واختيار المسالك يسير في اتّجاه الحتميّة السياسيّة والاجتماعيّة التي تُفرزها طبيعة المجتمع ودرجة نضجه ووَعيه.

هل تعتقدون بحكم اختصاصكم في الدراسات الحضاريّة أنّ تونس تجاوزت فعلا الدكتاتوريّة والاستبداد باعتبارهما شدّا حضاريّا سلبيّا وباتت في مأمن، وهل هي الآن سائرة حقّا في طريق الديمقراطيّة والأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الضامن للحريّة والكرامة لكلّ التونسيّين؟

الاستبداد بنية اجتماعيّة وأخلاقيّة وذهنيّة وتصوّر وتاريخ وثقافة وليس مجرّد نظام سياسي متآكل يسقط تحت أقدام مَن كان يمعن في جلدهم وتعذيبهم، وبالتالي فإنّ تونس اليوم مقارنة بالأمس القريب قد حقّقت قفزة سياسيّة واجتماعيّة نوعيّة في اتّجاه تجاوز الدكتاتوريّة دون أن تتجاوزها حقيقةً وفعلاً... ينتظرنا عمل في العمق للمحاسبة والمصالحة والتجاوز والبناء من جديد على أسس سليمة، وهو مشروع حضاري ضخم يحتاج إلى إرادات فكريّة وثقافيّة وسياسيّة كبرى وإلى مبدئيّة وتواضع وتواصل لأجيال متعاقبة يتمّ خلالها الإصلاح الجذري للمنظومة التربويّة من مرحلة ما قبل الدراسة إلى مرحلة الدراسة الجامعيّة العليا والتخصّصات الكبرى.

وفي النهاية وحتّى أغلّب التفاؤل والنظرة الإيجابيّة أرى أنّ حاضر تونس ومستقبلها وكلّ ما يتعلّق بأمنها وحريتها وكرامتها وتوازناتها بيد قواها الاجتماعيّة والسياسيّة الحيّة ورهين وعيها ونضجها وإرادتها في تحقيق حلمها الذي بات ممكن التحقيق والإنجاز.

نُريد أن أسألكم بصفتكم الجامعيّة عن وضع الجامعة التونسيّة في مستويات التكوين والتأطير والبحث العلمي وإنتاج المعرفة، وعن الدور الوطني للجامعيّين والباحثين في هذه المرحلة الانتقاليّة التي تمرّ بها بلادنا وهي في أشدّ الحاجة لخبرة كفاءاتها النوعيّة؟

الجامعة بحكم موقعها ودورها قاطرة المجتمع ورائدة نهضته وتقدّمه بشرط أن تتهيّأ لها الأسباب والإمكانيّات والبرامج للقيام بدورها على أفضل وجه، ومن أهمّ وظائف الجامعة إنتاج المعرفة وتطويرها في كلّ المجالات العلميّة والتقنية والإنسانيّة وتكوين الإطارات الكفؤة والمقتدرة وتطوير مجالات البحث والتأطير في كلّ الاختصاصات الممكنة. ولا بدّ للجامعة من سياق علمي موضوعي يكون محايدا عن كلّ التجاذبات السياسيّة والإيديولوجيّة، وهنا مربط الفرس لأنّ الكثير من الجامعيّين اشتغلوا لفائدة النظام الاستبدادي وقدّموا أنفسهم سواعد للتنظير والتفكير والبرمجة والعمل والاستشارة للتغطية عن جامعة مفلسة تكتفي بتخريج أفواج العاطلين والمُحبطين، وقد خان مثل هؤلاء الجامعيّين أمانة العلم وضمائرهم من أجل مكاسب وامتيازات ماديّة، ومازال الكثير منهم بعد الثورة مُصرّا على القيام بأدوار متقدّمة في رئاسة المؤسّسات الجامعيّة مستفيدا من أوضاع الإرباك التي عليها الجامعة ومن قوانين الاستبداد التي ما زالت تكرّس اللوبيّات الشخصيّة والجهويّة وحاجة عموم الجامعيّين للانتداب والترقية للضغط والهرسلة وفرض التبعيّة والولاء...

تتمّ مثل هذه التجاوزات في ظلّ أجواء التجاذب السياسي والإيديولوجي ويستفيد منها الانتهازيّون لزرع الفرقة والاختلاف من أجل تمرير مشاريعهم على حساب المهام الجامعيّة النبيلة، لكنّ المطمئن في وضع الجامعة التونسيّة أنّ أغلبيّة الجامعيّين يعرفون جيّدا من تفنّنوا في خدمة الاستبداد ويقظون تجاه ألاعيبهم ودسائسهم المُفسدة، في انتظار المحاسبة والمراجعة والبناء السليم.

كيف ترون واجب المثقّف إزاء إشكاليّات الدين والسلطة والمجتمع والتشغيل والتنمية، وهي من المفاصل المحوريّة الهامّة في معالجة أوضاع تونس الراهنة والمستقبليّة؟
المثقّف هو مواطن من درجة متقدّمة تقع عليه مسؤوليّة التفكير السليم والإشعاع الإيجابي، وعليه في هذه المرحلة واجب الاطّلاع والتحرّي والأمانة والموضوعيّة في ملفّات على درجة كبيرة من الأهمّيّة والتأثير كملفّ الدين والسلطة والمجتمع، ومن واجبه التحرّي حتّى لا يقع في التجاذب الساذج الهادف إلى المغالطة والتوظيف... فالدين على سبيل المثال، أيّ دين، نصوص وقراءات وتأويلات وأصناف ومستويات وأفهام وعقائد وتصوّرات ورُؤًى وخيالات، ومقاربته باتت لدى المختصّين مسألة علميّة محسومة لها أدواتها ومناهجها الموضوعيّة نذكر منها أدوات علم الاجتماع الديني وعلم النفس الديني وعلم الأديان المقارن والأنتروبولوجيا الدينيّة وغيرها من العلوم ومناهجها متعدّدة التنظير والتطبيق، هذا بالإضافة إلى مدوّنة العلوم التقليديّة كالفقه وأصول الفقه وعلوم القرآن والحديث والتفسير وغيرها المُهيمنة إلى الآن على التفكير الإسلامي وعلى المسلم العادي الذي بات يفكّر في دينه بالوساطة التي يمارسها الأئمّة والشيوخ من كلّ الدرجات والأصناف، وهذا هو مجال الإسلام الشعبي والجماهيري مثلا الذي يتغذّى منه بالأساس الإسلام السياسي وتُراهن عليه الحركات الدينيّة لبلوغ السلطة وتكييف المجتمع بكلّ الوسائل المشروعة والممكنة.

كيف تقيّمون عمليّة الجمع خلال مسار حياتكم بين مواقع ومستويات دراسيّة ومهنيّة واجتماعيّة وسياسيّة عديدة؟ وهل تعتقدون أنّ التعدّد والتنوّع في مسار الحياة بمنحنياتها المختلفة ممّا يغني تجربة الإنسان ويثريها أم ممّا يشتّتها ويُعيقها؟

من المؤكّد أنّ التعدّد والتنوّع ممّا يغني تجربة الإنسان في التاريخ أي في حياته وبعد مماته، فأنا من المؤمنين بأنّ الإنسان فكر وعمل وذكرى وبأنّ الإنسان مسؤول عمّا يفكّر فيه ويفعله ومن خلاله يساهم في صنع تاريخه وتاريخ المجموعة التي ينتمي إليها والإنسانيّة عبر ما يتركه من ذكرى إيجابيّة تحفظ له فعله في الحياة. إنّ عوامل النشأة في بيت يُجلّ العلم والتنقّل بين مدن وأماكن مختلفة والاختيار الأنسب للإمكانيّات والطموحات المعقولة ممّا ساهم في بلورة مسار حياتي واتّجاهاتها المبدئيّة. فقد كنت محظوظا بالانتماء إلى أسرة متأصّلة دينيّا وبالنشأة في بيت علم ومعرفة حتّى أنّ التقاليد التعليميّة سارية في بيتنا مُذْ أسّس جدّي الشيخ أحمد التليلي المدرسة المحمّديّة بفريانة سنة 1145ه/ 1733م في ربوع حدوديّة نائية حتّى أنّ أحمد بن أبي الضياف أرّخ في كتاب الإتحاف لمكانة مدرسة فريانة ودورها وشيوخها في الإحاطة بالمجتمع الريفي المُهمّش في تلك المناطق القبليّة المُهَمَّشَة وترجم لأعلام الزاوية التليليّة وأشاد بعلمهم وثقافتهم في القسم الذي خصّصه لتراجم أعلام عصره... هذا التاريخ ممّا أستحضره فيلازمني باستمرار في حياتي الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة ساعيا إلى الإفادة به، وهو ممّا حثّني – لمّا أُتيحت لي فرصة مواصلة الدراسة بالمراحل العليا - على الاهتمام بالبحث في مظاهر الحضارة العربيّة والإسلاميّة في بعديها الديني والاجتماعي انطلاقا من البحث في ظاهرة الأولياء والزوايا والطرق الصوفيّة ومن ثمّة تتبّع أثر الدين في التحوّلات الاجتماعيّة المحليّة وفي النسيج الفكري والعملي لحياة الناس العاديّين واحتياجاتهم ومصالحهم وشؤونهم وسياستهم العامّة والخاصّة ولتتبّع كيف أنّ الإسلام في الواقع المعيش لم ينفصل البتّة عن السياسة العمليّة في أيّ لحظة من لحظات تاريخه كلّه، وهي من القواعد التي يتجاهلها أو لا يفلح في تقديرها وفهمها والتفاعل معها دعاة الفصل بين الدين والدولة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لأنّ مرجعيّتهم ومقاسهم في ذلك مبادئ الثورة الفرنسيّة أساسا ومسار بعض التجارب الناشئة في سياق التاريخ الأوروبي، وعلى العكس من ذلك تستغلّها بحنكة ودراية وتعثّر أيضا التيّارات الدينيّة الإسلاميّة لتكريس السلطتين الاجتماعيّة والسياسيّة لفائدتها عبر توظيف المشاعر والاحتياجات الدينيّة المتغلغلة بعمق في ثنايا النسيج الثقافي والاقتصادي والاجتماعي... وهذا لا يعني أنّني مع وصل السياسة بالدين كما هو جار به العمل في مجتمعاتنا بطُرُق وأساليب لا تخلو في الغالب من غلظة وفظاظة تبلغان أحيانا حدّ العنف المُمَنْهَج ضدّ المجتمع نفسه الذي قَبِل في النهاية بمثل هذا الوصل، لكنّني بحكم تجربتي ومساري واختصاصي مع تفهّم هذه الظاهرة وعقلنتها وضرورة تعميق الوعي بأبعادها الممكنة في إطار من المعرفة الموضوعيّة الدقيقة بحقائق وخصوصيّات الثقافة والتاريخ والحرص على الانتظام في الواقع المحلّي واحترام مكوّنات الهُويّة بنفس القدر من الحرص على الإفادة من تاريخ الآخر المتقدّم، بل المُبهِر في تقدّمه والمتحكّم في حاضرنا علميّا ومعرفيّا وتقنيّا وإنتاجيّا شئنا أم كرهنا... وهذه لَعَمْري معادلة صعبة لكنّها ممكنة لو تعلّقت همّة المؤسّسات والمجموعات والأفراد المنوط بعهدتهم قيادة المجتمع من منطلقات حضاريّة مبدئيّة، لا تسلّطيّة، تنأى بالعمل السياسي عن كلّ مظاهر الانتهازيّة والوصوليّة التي غالبا ما تستغلّها السلطة الحاكمة لجرّ النُخب الهشّة والمتهافتة إلى صفّها حقّا وباطلا.

ولا يفوتني في هذا السياق التنبيه على أنّ انحراف الأداء السياسي للنخب التي تولّت مسؤوليّة السلطة في العهدين السابقين (بورقيبة/بن علي) وما اتّسم به من انتهازيّة مقيتة ونفعيّة فاضحة من الأسباب العميقة التي أدّت إلى مثل هذه النتائج الوخيمة في مستوى أحجام الفقر والبطالة والتفاوت والتهميش التي باتت تهزّ مجتمعنا اليوم هزّا مُقلِقا، فهذه النخب كانت - بوعي أو من دونه – في موقف مَنْ ضحّى بمصالح شعبه مقابل مصالحه الخاصّة ومِمَّن فضّل وَداعَة السلطان وأمنه و»فُتاته» من خلال خدمة دولته وتأمين نفوذه وتسويق سياسته على الالتحام بهموم شعبه وحمل أمانة الدفاع عن قضاياه الإنسانيّة العادلة...

وهذه كانت ومازالت من المسائل الإشكاليّة في مسيرة حياتي النضاليّة على تنوّعها: كيف أكون في صلب المعترك الاجتماعي والثقافي والسياسي وأحافظ في الوقت ذاته على دور المثقّف العضوي المهموم بقضايا مجتمعه والملتزم مُطلَقًا بالعمل على بناء القيم الأصيلة في عالَم متدهور، على حدّ عبارة لوكاتش.

أترك لكم كلمة الختام ، بماذا تختمون؟

طبعا لا يفوتني شكركم وشكر إدارة صحيفة الشروق وهيئة تحريرها على إتاحة هذه الفرصة للتواصل مع القرّاء الأعزّاء بمثل هذا الفضاء الفكري والثقافي المتميّز، ولكم منّي كلّ التعاطف والتقدير على المجهود الإعلامي الكبير الذي تبذلونه في سبيل إنارة الرأي العامّ الوطني، وهو مجهود تاريخي يُحسب لكم بسبب ثقل المسؤوليّة التي بات يتحمّلها الإعلام بصفته قطاعا متقدّما في خدمة الأهداف التي ضحّى من أجلها شعبنا خاصّة في المناطق الداخليّة حيث يرابط آلاف الشباب المثقّف والعاطل، كفاءات في عمر الزهور لا تستحقّ منّا إلاّ المساندة والدعم والعمل الوطني البنّاء من أجل القضاء الجذري على أسباب الحيف الاجتماعي ومظاهره القاسية عبر تنمية حقيقيّة ترفع من شأن المواطن التونسي وتنهض بحاضره ومستقبله.

من هو محسن التليلي؟

محسن التليلي هو أصيل مدينة فريانة من ولاية القصرين وتحديدا أصيل زاوية الشيخ أحمد التليلي التي اقترن ذكرها بتاريخ فريانة ومنطقة السباسب العليا التونسيّة والمناطق الحدوديّة مع الشقيقة الجزائر إلى محيط تبسّة وسوف وبسكرة والأوراس، نشلأ ودرس بها الابتدائي والثانوي بحكم اشتغال والده وإقامته بها منذ أربعينات القرن الماضي ثمّ غادرها لمتابعة تعليمه العالي بتونس وعاد إليها لاقتحام عالم التدريس سنة 1978 .

ارتأى ضمن نخبة من المناضلين النقابيّين في قطاعات التعليم والصحّة والنقل بعد «انقلاب» نوفمبر 87 وإثر تقييم موضوعي لأوضاع البلاد آنذاك ضرورة تطوير العمل النضالي بالانخراط في العمل السياسي المُنظّم ضمن حركة المعارضة الوطنيّة وتمّ الاختيار في سنة 1992 على الانخراط في حزب الوحدة الشعبيّة وتولّى منذ 94 منصب الأمين العامّ المساعد المكلّف بالدراسات والتثقيف السياسي، لكنّه سرعان ما وضع حدّا لتجربة الانتماء الحزبي هذه سنة 2000 إثر الانقلاب الذي أحدثته السلطة في الحزب عبر مجموعة محمّد بوشيحة ضدّ الأمين العامّ محمّد بالحاج عمر، فكانت استقالته من المكتب السياسي والأمانة العامّة مع ثلّة من القياديّين آنذاك، وقرّر بعدها الامتناع عن كلّ انتماء تنظيمي وركّز على النضال الفكري والسياسي بصفته الشخصيّة ضمن جبهة المعارضة الوطنيّة، خاصّة بجهة سوسة، ومنها جبهة 18 أكتوبر والمجموعة المؤسّسة للمؤتمر من أجل الجمهوريّة .

صاحب مسيرة أكثر من 30 سنة في مجالات التدريس والنضال النقابي والسياسي بصفاقس والمتلوّي والقصرين وسيدي بوزيد والقلعة الكبرى وتونس وغيرها من المدن وخاصّة بمنطقة الساحل ومدينة سوسة بالذات حيث يواصل التدريس بجامعتها في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة منذ 20 سنة.

كما كانت له مجهودات في مجال البحث والتأطير في الماجستير والدكتورا وكذلك في الإنتاج والكتابة في مسائل تخصّ مظاهر الحضارة العربيّة والإسلاميّة وتطبيقاتها الاجتماعيّة والثقافيّة، ومقالاته وكُتبه المنشورة في الشفاعة (وقد تمّ حجز كتاب الشفاعة في الإسلام بين سنة نشره 2004 إلى نهاية سنة 2007) والإسلام البدوي وواقع المرأة العربيّة والدين والسلطة وصنف الأبحاث التي أشرف ويشرف عليها في قضايا الفكر العربي الإسلامي قديما وحديثا وفي الحداثة والثورة وفي قضايا الإسلام السياسي والاجتماعي والدعوة إلى إعادة قراءة القِيَم القرآنيّة في ضوء مقتضيات المعاصرة وشروطها الإنسانيّة الجديدة تؤكّد هذا التوجّه المبدئي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.