لم تكن "التعفنات" التي أودت بحياة الرضع يوم السبت الماضي وحدها عنوان أزمة وطنية في تونس، بل كانت المواقف السياسية أشد عفنا وأكثر إيلاما من غيرها، إذ في الوقت الذي انتظر فيه عموم التونسيين وحدة الصف الوطني أمام الحادثة سارع سياسيون لتسجيل نقاط انتخابية في مرمى الخصم. فلم تكن مصيبة مستشفى الرابطة ومستشفى وسيلة بورقيبة سوى فرصة للمزايدات السياسية، فقضية مقتل 11 مولودا تونسيا بريئا أوصلها البعض إلى أقصى الدنيا، لا بسبب بشاعة الجريمة أو بمحبة او بتعاطف مع المجني عليهم، ولكن الذي أصبح واضحاً وجلياً أن الكثيرين ممن روّجوا لذلك من سياسيين وأحزاب انما كانوا يسعون لجعل هذه الحادثة سلعة في سوق الانتخابات دون مراعاة لمشاعر الألم التي ضربت ك»تسونامي» قلوب التونسيين. حادثة الولدان لم تكن الاولى حيث سبقتها قضية اللوالب الفاسدة والبنج الفاسد، لتتواتر علامات الفساد وتصبح أخباره حقيقة تصفع الوجوه كل يوم، وصولا الى استيطانها وتطبيعها للعلاقات مع التونسيين وتبقى كل محاولات التحليل والنقاش والفهم مبهمة ما لم نُجب على سؤال مركزي وهو لماذا أصبحت وزارة الصحة تغتال صحة المواطنين لتتحول من وزارة الى خبيرة في صناعة الموت أحيانا؟ أمام كل هذا الفساد الحاصل كان واجبا ان يتوحد الخطاب في وجه سماسرة الدواء وسماسرة الحياة، فالتونسي بات مرهونا في جرعة دواء فاسدة او حقنة فاسدة، الكل بات يعلم هذه الحقيقة، وقليلون من تجندوا لدق ناقوس هذا الخطر، وكيف للسياسيين ان يسمعوا، وهم لا همّ لديهم سوى تصدير الوهم والمزايدة حتى أمام مصيبة الموت. استقالة الوزير.. فرار من المسؤولية أم قرار جريء؟! بمجرد اعلان وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف عن استقالته حتى اختلف السياسيون في توصيف هذه الاستقالة، فقد سارع الامين العام لحركة «مشروع تونس» محسن مرزوق الى وصف استقالة الوزير ب»القرار الجريء وأن كل وزير يحترم نفسه ويتحمل مسؤوليته بشجاعة يخطو هذه الخطوة ويستقيل حتى وإن لم يكن هو المسؤول المباشر عن الحادث». وأضاف مرزوق في تصريح له على هامش اجتماع سياسي بجهة القصرين «إن وزير الصحة كان سيستقيل بعد ساعتين أو ثلاثة من الكارثة الإنسانية التي حصلت ولكنه أجل ذلك للتحاور مع النقابة، التي لم تراع المصاب الجلل، وإقناعها بفك الإضراب القطاعي». وكشف مرزوق «أن وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف المستقيل تنقل منذ ثلاثة أيام الى احدى المستشفيات العمومية خيّر عدم ذكر اسمها، لمنع كارثة إنسانية أخرى كانت ستحصد أرواحا بسبب مياه ملوثة وأن المشاكل الصحية تتراكم منذ شهور وليست وليدة اللحظة، نتيجة الاهمال والتهاون وفق قوله». من جهته اعتبر «حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد» استقالة الوزير «خطوة منقوصة لما فيها من تنصل من تحمل مسؤوليات الخيارات السياسية»، واعتبر الحزب في بيان له ان ما حصل يندرج في «سياق خيارات الائتلاف الحاكم القاضية بتخلي الدولة عن دورها في توفير الخدمات الاجتماعية وصيانة المرفق العام». من جانبه اعتبر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي استقالة وزير الصحة عبد الرؤوف الشريف إثر فاجعة مستشفى الرابطة انها «خلقت جوّا إيجابيا وساهمت في التقليص من حالة التوتّر والاحتقان»، مضيفا «ولهذا نحيّيه واستمرارية الدولة تقتضي ذلك… يذهب شخص ويأتي آخر». وتابع قائد السبسي أثناء إشرافه أمس على اجتماع مجلس الأمن القومي «تونس ليست مرتبطة بالأشخاص… لا برئيس ولا بمرؤوس… لنا دولة لها 3000 سنة… الرجال تمرّ والمؤسسات تمرّ والدولة تبقى ويجب ان نحافظ عليها». حمة الهمامي وحافظ قائد السبسي نفس الموقف وكردة فعل على موت الرضع ال11 حمل حزب العمال «المسؤولية كاملة فيما حدث للحكومة وللأحزاب المشكّلة لها» مؤكدا في ذات السياق ان «المسؤولية السياسية والأخلاقية تقتضي استقالة الحكومة بأكملها لا استقالة وزيرها للصحة». كما دعا حزب العمال في بيان له تحت عنوان حكومة الشاهد/النهضة تقتل أطفال تونس» كل القوى السياسية والاجتماعية والمدنية التقدميّة إلى تحمّل مسؤولياتها وتنظيم فعاليات نشاط تطرح بجد ملف المرفق العمومي وفي مقدمتها قطاع الصحة العمومية الذي نخره الفساد والمحسوبيّة واخترقته مافيا الدواء والمواد الطبّية الفاسدة والتي لا هم لها سوى تكديس الأرباح مهما كانت الوسائل مع التأكيد على تنظيم النضالات العارمة من أجل الحق في الصحة ومن أجل فضاءات صحية لائقة ومطابقة للشروط المادية والمعنوية الإنسانيّة، والنضال من أجل التأميم الفوري لقطاع الأدوية وفتح ملف القطاع الصحي الخاص من أجل تنظيمه واتخاذ ما يلزم من إجراءات عاجلة ضد السماسرة والمتاجرين بصحة البشر». ولعل المزايدة الحقيقية الواضحة تلك التي تضمنها بيان نداء تونس، حيث طالب الحزب «بالاستقالة الفورية للحكومة وتحميلها مسؤولية تردي الأوضاع على كافة المستويات والخوف من مغبة حصول المزيد من الكوارث نتيجة تفرغها لتأسيس حزب سياسي بدل خدمة المواطن.» التيار الديمقراطي…الأكثر هدوءا وعقلانية على عكس بقية أطراف المعارضة فقد كان بيان «التيار الديمقراطي» اكثر البيانات عقلانية وهدوءا بالإضافة الى طرحه جملة من البدائل الواقعية الممكن تحقيقها من خلال تدعيم سياسات الجودة وسلامة الخدمات الطبية ومسالك توزيع الأدوية ومراجعة ميزانية الصحة العمومية والعمل على النهوض بالقطاع العمومي الذي يعاني- إضافة إلى نقص التمويل الحكومي- من تعريفات تعاقدية ضعيفة من طرف الصندوق الوطني للتأمين على المرض، وعلى الحكومة ووزارة الشؤون الاجتماعية ومكتب مجلس نواب الشعب التسريع بنقاش قانون التقاعد إضافة إلى القيام بالإصلاحات الضرورية للوقوف أمام التجاوزات وسوء التصرف بما يسمح بتمويل الصحة العمومية التي تدفع ثمن عجز الصناديق الاجتماعية». كما دعا الحزب «المهنيين والمجتمع المدني والأحزاب الانخراط في الحوار المجتمعي لاستراتيجيات الصحة بما يجعله أولوية قصوى وقاطرة للنهوض بتونس». ويذكر ان تونس عاشت سبتا أسود بعد اعلان وزارة الصحة العمومية عن وفاة مجموعة من الولدان وهو ما خلق حالة من الغضب الشعبي نتيجة ما اعتبره مواطنون إهمالا طبيا وليصفه آخرون بفساد محتمل. خليل الحناشي