آليت على نفسي منذ سنوات عدّة ، أن لا أحشرها ولا أترك قلمي يجرّها للحديث ولا للكتابة عما يجري في تونس العزيزة الشهيدة. فصورتها من وراء الحدود ، وأخبارها التي يسمح لها أن تسمع أو تقرأ ليست ، لدى الصادقين من وطنيين وأجانب غير منافقين أو باحثين عن مصالح ومنافع ، الصورة ولا الأخبار التي كان يتمنّى كلّ تونسي ، وحتى غير التونسي ، أن تكون غير التي هي عليه ، منذ أن سقط جدار الخوف وتغيّر الوضع وانسحب الأبطال والبطلات ، الذين خرجوا بأيد سليمة ولسان صادق صريح ، ينادون بمستقبل أفضل ، تاركين الساحة – ويا ليتهم لم يتركوها – لمن ظنوهم وطنيين مخلصين للوطن وحده ، قادرين على الإمساك بالدفّة وإعلاء الشراع ، حتى إرساء المركب في ميناء الأمن والسلامة. ظنوا – وظننّا – فخاب ظنهم وظننا ، لأن المقدرة والإخلاص لم يظهر منهما ما تطمئن له القلوب ، والجري والرّكض لم يلاحظ إلا لغايات يصعب على المواطن فهمها ، وما هو فوق كل ذلك أمرّ وأحزن ، هو أنّ البنّاؤون أعطوا الدليل على أنهم غير قادرين على البناء ، فاكتفوا بالمحاكاة والتقليد ، في التنظيم والتصرّف والاتجاه ، فبدأوا البناء من السقف لا من الأسس. إن هذا ، إن دلّ على شيء ، فإنه الدليل والبرهان على عدم معرفتهم البلاد وشعبها وحاجياتهم الملحة. نسوا أو تناسوا أن الشعب – وهم ضمنه – عاش نصف قرن ويزيد محروما من أكثر الحريات والحقوق ، وأنه لُقِّن وعاش في غمار ثقافة سياسية ومجتمعية واقتصادية وحتى علمية أساسها الأنانية والمحسوبية والتمييز، وما إلى ذلك من نقائص الحكم السلطوي الفردي. نسوا أو تناسوا أن الشعب بأسره – وهم ضمنه – في حاجة ماسة إلى التدريب على ترك تلك الثقافة ، والتدرب أو تعلم العيش والتعايش مع وضمن ثقافة بديلة ،تلك التي نادى بها طويلا حتى خرج إلى الشارع ليفرضها ، ثقافة الحريات والمساواة والعدل والإخلاص ، وما هو أهم ، ثقافة فائدتي في فائدة الجميع وسعادتي في سعادتهم. تمر السنون ودار لقمان على حالها ، بخلافات لا تهم الشعب ولا مصالحه ، تناحر في كل المؤسسات وبينها ، لا يجني الشعب والوطن من ورائها غير شماتة الشامتين: اقتصاد يزداد تدهورا والشعب من جرائه فقرا واحتياجا ، والأيدي الرسمية ممدودة تتسوّل ، بينما الرأسمال ، بل رؤوس الأموال الوطنية بإمكانها ، لو وجدت حافزا وضمانا ، على تنفيذ أحوج المشاريع وأقربها إلى الشعب . لكن ، مثل هذا يحتاج إلى ترك ما ملأ الساحة من جري وصياح وخصام ، والجلوس إلى مائدة تبادل الآراء ، وتقديم الاقتراحات ، والاتفاق على أسرعها وأجدرها وأكثرها مردودا ماديا ونفسانيا. مثل هذا يحتاج إلى استعمال تلك السيارات التي يسدد تكاليفها وتكاليف استعمالها صندوق مال الشعب المحتاج ، استعمالها في التنقل من وإلى كل أركان البلاد ، للاتصال بالجماهير وإفهامها وفهم ما تقوله وتعبّر عنه ، ثمّ التعاون معها على حلّ المشاكل التي أسرعها حاجة ، وأكثرها خطرا وتهديدا الإرهاب الذي ذهب ضحية وحشيته وغاياته الدنيئة ، ثمانية شهداء من أولائك الذين لم يتقاعصوا على أداء واجبهم للذود عن سلامتنا وسلامة البلاد. أولائك الذين لم يتناحروا فيما بينهم ، ولم يختلفوا ، ولم يقضوا الساعات والأيام والأشهر والسنين يتناقشون ويتشاجرون ويتشاتمون ، دون جدوى أو هدف ، غير إزاحة الآخر للحلول مكانه . إلى متى سيواصل العسكريون ورجال الأمن قاطبة دفع ضريبة انحرافات وإهمال من ظنوا أنهم مسيّرون مخلصون قادرون ؟ إلى متى سنتركهم وحدهم أمام عدو الله وعدو الوطن – بما فيه نحن – دون أن يؤخذ الثور من قرنيه – كما يقول أهل بلاد هجرتي – كي يُقتلع الداء من أصله وعروقه ، ويُكشف ويُفضح الواقفون وراءه يغذونه ماديا وبشريا ؟ متى سنقف وقفة الرجل الواحد ونصيح صوتا واحدا عاليا غاضبا مصمّما لا ، لا ، لا ، لقد سددنا الطريق فلا مرور من هنا. إن هذا هيّن ممكن ، يتمّ إذا حاسب كلّ فرد نفسه ، ووقف كلّ مسؤول ، نال"ثقة" الشعب المغتر ولا شك ، ونظر إلى صورته في مرآت ضميره ، وقال لنفسه: ما الذي قدّمته لمن وثق بي وانتظر منّي مساعدته على تحقيق رغباته ؟ لكن كما يقول مثلنا الشعبي البليغ : " المرا هازها الواد ، وتقول العام عام طهمة.". هذا لعمري أكبر خطر يهدد الوطن ويسمح للمجرمين اقتراف جرائمهم في مأمن وطمأنينة. اللهم إني بلغت ، فهل من سامع متعقل ؟