-يبدو أنّ الدّساترة، القدامى والجدد الذين ارتدّوا عن زعيمهم الأوحد الحبيب بورقيبة، وارتدوا جبّة تجمّع المخلوع، والذين نسوا زعيمهم في غرفة معزولة في "سجنه" الانفرادي بدارالوالي بمدينة المنستير بعد 7 نوفمبر1987، ولم ينبسوا ببنت شفة في حقّه، ولم يزوروه وإنْ مرّة واحدة على ما نعرف، وقضي عليه القضاء المبرم في الإعلام البنفسجيّ، بل وأضحى 7 نوفمبر 1987 بالنّسبة إليهم يوم تحرّر وطنيّ من الدكتاتوريّة البورقيبيّة، ويوم انعتاق من حكم بورقيبة الفرديّ المطلق، ويوم تصحيح مسارالدّولة الوطنيّة التي اغتصبها بورقيبة، وافتضّ بكارتها، وخدش حياءها الطّاهرالعفيف، وجعلوا صانع التّغييرالمخادع، والرّئيس المخلوع محرّرتونس من الحكم البورقيبيّ الفرديّ المقيت، ومنقذ تونس من الحكم التّيوقراطيالظّلاميّ الذي يبشّربه الإسلاميّون، والحكم الشّموليّ الذي تبشّربه الطّوائف اليساريّة النّاشطة وراء أسوارالجامعة التّنسيّة خاصّة، ومنقذ الاقتصاد من الانهيار، والمجتمع من التّفكّك، والثّقافة التّونسيّة العتيدة من التّلاشي والضّياع، وساندوا المخلوع جهرًا وعلانيّة، وبكلّ صفاقة ووقاحة، هؤلاء الدّستوريّون القدامى والجدد ومنْ والاهم من تيّارات سياسيّة لا تستطيع العيش إلاّ في الظّلام، ولا تقتات إلاّ من فواضل موائد أسيادهم في الدّاخل والخارج الغربيّ الفرنكفونيّ، وحوّلوا المخلوع إلى أسطورة الدّيمقراطيّة والأمن والأمان والرّخاء والتّضامن، وجعلوا تونس الصّغيرة في عهده دولة المعجزة الاقتصاديّة، والتي يتهافت عليها الاستثمارالخارجيّ قبل الدّاخليّ، ويستطيب فيها عيش التّونسيّين وضيوفهم من الشّرق والغرب، وتضرب الأمثال الرّائعة في تنظيم الدّورات والملتقيات والنّدوات والتّظاهرات والقمم الإقليميّة والدّوليّة، وأصبحت تونس في عهده جنّة المتوسّط الأرضيّة. لقد فعل الدّستوريّون القدامى والجدد (التّجمّعيّون) كلّ هذا، وصفّقوا للمخلوع، وشهّروا بمعارضيه، وأنكروا كلّ صوت يصدح بحقيقة الأوضاع المزرية المتخفّية وراء إعلام التّزييف والتّزوي والتّضليل والمغالطة، ونسوا أنّ زعيمهم بروقيبة يقيم منفردًا في مدينة المنستير، وتمرّ المناسبات الوطنيّة ولا أحد يذكره، حتّى إنّ ذكرى تأسيس حزبه الدّستوريّ الجديد تمرّ في الخفاء ولا يظهر إلاّ مؤتمرالإنقاذ الذي غيّر فيه بن علي اسم الحزب، وتربّع على عرشه سنة 1988. واليوم وبمناسبة الذّكرى 57 للاستقلال يتهافت هؤلاء الدّستوريّون ومنْ والاهم من ساسة الانتهازيّة والانفصام زاعمين أنّهم حفدة بورقيبة المخلصون، وأبناؤه البررة، ورفاقه الأوفياء، ورجاله المخلصون، اليوم يذكرون زعيمهم متحسّرين على أيّامه التي أضاعها المخلوع الذي خدموه وساندوه ومجّدوه وزيّنوا له شرّ أعماله حتّى زعّموه علينا على امتداد ما يقارب ربع قرن من الزّمان، ومنبّهين التّونسيّين إلى ما سيلحق مجتمعهم من تشوّهات، وما سيفقدون من مكاسب حقوقيّة وتحرّريّة في ظلّ حكومات ما بعد الانتخابات، ومشوّهين كلّ منْ يفكّرفي تغييرأصول العمليّة السّياسيّة في تونس ما بعد الثّورة، وعاقدين العزم على الوقوف بكلّ حزم لكلّ المحاولات السّياسيّة التي يحملها أيّ مشروع مخالف لمشروعهم، يبشّربإعادة القيم إلى المجتمع الذي "تفرنك"، والدّولة التي "تليكأت"، وإعادة تثبيت الهويّة العربيّة الإسلاميّة في مجتمع أضحى يعيش الانفصام بين روحانيّة الشّرق الزّائلة، وماديّة الغرب الزّائفة، وإعادة تشكيل الدّولة على الأسس الدّيمقراطيّة السّليمة وإنْ بخطى بطيئة أومتعثّرة، وإعادة بناء الاقتصاد على أساس منوال تنمويّ مغايريضمن أقصى ممكنات العدالة لكلّ الفئات والجهات، ويمكّن الشّعب من حقّه في التّوزيع العادل لثروات بلده، ويحقّق له الرّفاه الأدنى الذي يضمن به الحياة الكريمة التي تجعله مجتمع الكفاية والعدل. وإعادة بناء الثّقافة على الأسس العلميّة التي تجعل المواطن لا يخجل من تراثه العربيّ الإسلاميّ العريق وإنْ شابته التّعثّرات والانتكاسات، ويحافظ على خصوصيّاته، ولا يخشى من الثّقافات الأجنبيّة، بل ينفتح عليها، ويتفاعل معها أخذًا وعطاءً بكلّ نديّة، ويسهم في حركة التّاريخ العالميّ، ويساهم في تنمية المعرفة العلميّة العالميّة، ويتمسّك بالعقل رهانًا حقيقيّة لكلّ تنمية شاملة. إنّ ما نراه اليوم من الدّستوريّين القدامى والجدد (التّجمعيّين) من مظاهرالاحتفاء ببورقيبة والبورقيبيّة، وربط الاستقلال الوطنيّ عن الاستعمارالفرنسيّ به دون غيره من زعماء الحركة الوطنيّة وشهدائها، وتخليد ذكراه، وإعادة صوره المتلفزة في بعض القنوات، وإعادة تسمية المجاهد الأكبر، لهو دليل على أنّ هؤلاء لا يؤمنون إلاّ بالانقلاب، فزعيمهم انقلب على الزّعيم التّاريخيّ للحركة الوطنيّة ومؤسّس الحزب الدّستوريّ التّونسيّ الأوّل المناضل عبد العزيزالثّعالبيّ، ثمّ انقلب على رفيق دربه وزعيم الكفاح المسلّح الشّهيد صالح بن يوسف، وانقلب على الدّستورسنة 1974 حين ألغى الانتخابات الرّئاسيّة، ونصّب نفسه رئيسًا مدى الحياة، فقضى على أهمّ أسس النّظام الجمهوريّ، وألغى مفهوم التّداول السّلميّ على السّلطة الذي هوأوّل مبادئ النّظام الدّيمقراطيّ، ثمّ انقلب عليه المخلوع سنة 1987 وخلعه من الرّئاسة بشهادة طبيّة، ثمّ انقلب هؤلاء أنفسهم على المخلوع يوم 14 جانفي 2011 حين زأرالشّعب التّونسيّ ثائرًا، وصرخ في وجهه "ارحل"، فتركوه يواجه مصيره وحده حتّى أُجبرعلى الفرارإلى منفاه الأخير، ثمّ هاهم في الأخيريحاولون الانقلاب على ما أفرزته الثّورة من طرد مهين لهم، وما أفرزته الانتخابات الأخيرة من إذلال لمكانتهم التي كانت عظيمة في الدّولة والمجتمع، واعتقدوها دائمة خالدة أبد الآبدين. إنّ هؤلاء اليوم يحتاجون إلى أنْ يدركوا أنّهم يعانون من "عقدة أوديب حيث أنّهم يحاولون اليوم التّكفيرعن ذنبهم المتمثّل في تركهم أباهم يعيش وحيدًا في إقامته الجبريّة، ثمّ يموت وحيدًا ولا تقام له جنازة تليق بمقام الزّعماء، ويعتقدون اليوم أيضًا أنّ بإمكانهم أنْ يتوبوا عمّا اقترفوا في حقّه، وأنّهم يكفّرون عن جريمة أدويب التي ستظلّ تلاحقهم، ولن يبرئوا منها أبدًا، لأن شعب تونس 2013 ليس هو شعب تونس 1987، وإنْ حاولوا التّحالف مع بقايا السّتالينيّة، أوصبيان الميركاتوّات الحزبيّة خاصّة أولئك الذين عاشوا الصّدام مع بورقيبة في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته، ويتشدّقون اليوم بدولة الحداثة والحقوق والحريّات التي بناها بورقيبة والدّساترة. هذا مجرّد رأي، والله أعلم... ● أستاذ باحث، ومؤلّف